تخلت حركة حماس في الرابع من الشهر الجاري عن شرط يلزم إسرائيل بوقف الحرب على غزة قبل بدء أي مفاوضات حول التهدئة في القطاع. أرجأت حماس وقف النار إلى المرحلة الثانية، بعد تطمينات حصلت عليها من الوسطاء بأن المفاوضات ستؤدي بالضرورة إلى وقف الحرب. لكن الأجواء الإيجابية التي أشاعها هذا التحوّل واستئناف المفاوضات التي لامست تفاصيل ميدانية تتعلق بمستقبل معبر رفح ومحور فيلادلفيا وسواها مما يتعلق بالإنسحاب الإسرائيلي من القطاع ما لبثت أن تبدّدت.
لقد قدّم الهجوم الجوي الإسرائيلي على خان يونس نهاية الأسبوع المنصرم، وأوقع أكثر من مئة فلسطيني بين شهيد وجريح، النموذج الميداني لما يمكن أن تكون عليه المرحلة الأولى من الإتفاق المزمع التوصل إليه مع حركة حماس. إستنسخ الهجوم الذي استهدف «محمد الضيف» قائد كتائب القسام نظام المعركة الذي اعتمده العدو على جبهته الشمالية لجهة استهداف قادة ومقاتلي حزب الله من خلال عمليات نوعية تعتمد على نقاط القوة من استعلام وتصوير جوي مستمر وتشويش والتخلي عن أي جهد بري قد يعرضه لخسائر أكيدة. وقد يكون مرد التدمير الهائل الذي أحدثه الهجوم على خان يونس محاولة لتجاوز أي خطأ في التقدير وإصرار على إخراج محمد الضيف من المعادلة نظراً لما يمثله من إنجاز ميداني يحتاج إليه نتنياهو لإثبات نظريته في جدوى الإستمرار بالرهان على الميدان.
لقد كان لافتاً خيار حركة حماس بعدم الإنسحاب من المفاوضات ــ بالرغم من فداحة الخسائر ــ مما ينم عن واقعية في تقدير خطورة الموقف في غزة ببعديّه الميداني والدبلوماسي. فالإنسحاب من المفاوضات أو محاولة الذهاب لوضع شروط سيدفع الى المزيد من التصعيد، وسيطلق يد إسرائيل في ارتكاب المزيد من المجازر. من جهة أخرى، فإن المخاطر المترتبة على هذا الخيار تبدو مفتوحة بما يتجاوز حدود التقدير، وبما يؤدي إلى حرب شاملة تسعى إليها إسرائيل، في ظلّ الترقب السلبي الذي يتصف به التعامل الأميركي مع هذا الجنوح ومحدودية تأثير الوسطاء العرب وانعدام الدور الأوروبي. وتأتي في طليعة هذه المخاطر الرغبة الأميركية في تعميم حرب الإستنزاف على الجبهتين الشمالية والجنوبية وإطالة أمد الحرب لإنضاج ظروف التسوية الإقليمية الشاملة وفقاً للتوقيت الأميركي.
وقد يكون من المفيد في هذا السياق متابعة ومقارنة ما يجري في كلّ من غزة وجنوب لبنان في ظلّ تعذر التفاوض. ففي غزة تدور المفاوضات في حلقة مفرغة فيما يمضي جيش الإحتلال الإسرائيلي، بإنشاء منطقة عازلة على امتداد محور فيلادلفيا بحيث بات بين منطقتين عازلتين، الأولى في رفح المصرية بعمق خمسة كلمترات، والثانية في الجانب الفلسطيني بعمق يتراوح بين 700 و1500 متر. وفي لبنان تمضي إسرائيل في تدمير القرى الحدودية وتحويلها الى منطقة عازلة وظيفياً، بعد أن حضر الموفد الأميركي آموس هوكستين إلى بيروت واختصر شروط الإستقرار على منبر الرئيس نبيه بري بتطبيق القرار 1701. وقد يكون في ما قاله وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبدالله بوحبيب بعد لقائه مبعوث الرئيس الأميركي آموس هوكشتاين في العاصمة الأميركية: «أنّ الأمن في الجنوب يعتمد في نهاية المطاف على جيش لبناني قوي واتّفاق على الحدود وليس الحرب»، ما يوحي بالإنقسام السياسي الكامن حيال استمرار حزب الله كتنظيم مسلح والمخاطر المترتبة على هذا الدور .
تقضي الواقعية بالتوقف عند ما قاله الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله في إطلالته في 10 من الشهر الجاري بأن «حركة حماس تفاوض عن كل الفصائل الفلسطينية وعن محور المقاومة» و»ما تقبل به حركة حماس سنقبل به جميعاً». كلام نصرالله الذي بدا كإعلان غير مشروط بالقبول بما تسفر عنه المفاوضات، عبّر عن استعداد للإندماج بشكل إنسيابي في سياق إقليمي جديد استدراكاً لما يمكن أن يؤدي إليه استمرار حرب المساندة التي ذهب إليها الحزب. وفي هذا الإطار أيضاً يمكن فهم ما أدلى به الرئيس الإيراني المنتخب مسعود بزشكيان لصحيفة "طهران تايمز « تحت عنوان «رسالتي الى العالم الجديد». بزشكيان الذي شدّد على التعاون مع دول الجوار مسميّاً: «تركيا والمملكة العربية السعودية وعمان والعراق والبحرين وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة» دعى للتعاون و«الإستفادة من جميع النفوذ السياسي والدبلوماسي لإعطاء الأولوية لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في غزة بهدف وقف المذبحة ومنع اتّساع نطاق الصراع».
في تصريح بزشكيان الذي أسقط من دعوته سوريا ولبنان واليمن واكتفى بالرغبة في تحقيق وقف لإطلاق النار في غزة ما يكفي لفهم التوجهات الإيرانية الجديدة التي شاءها المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية لإخراج إيران من مأزقها مع العالم ودول الجوار ولاستخلاص ما يكفي من العِبَر.
("اللواء") اللبنانية