لقد عمِل التوطين الهيكلي والمُمنهج لمفهوم الدولة الوطنية في الدول العربية على تفكيك البُنى التقليدية للحكم حتى في الدول العربية التي لم تعرف استعمارًا عسكريًا مباشرًا، لأنّ الدولة الوطنية المستقلة هي مفهومٌ غربيٌ أفرزه الاستعمار، حيث مررنا من الدولة الجامعة الى دول مجزّأة تسعى لتقوية وجودها. فما هي أهم معالم الدولة الوطنية في السياق العربي الراهن؟.
تمثّل أغلب الدول الوطنية العربية نموذجًا فتيًا، إذ نرصد بهذا الخصوص أربع مراحل لتشكّل هذا المفهوم في السياق العربي:
- المرحلة الأولى، هي مرحلة الاحتضان النظري للمفهوم، إذ شكّل مفهوم الوطنية خلال نهاية القرن العشرين أهمية كبرى لدى العديد من المفكرين الاصلاحيين المتأثرين بالفكر الغربي أمثال رافع الطهطاوي وبطرس البستاني وآخرين.
- أمّا المرحلة الثانية، فهي مرحلة الاستعمار ومحاولة التماهي مع النموذج الغربي المسيطر على دواليب الحكم آنذاك، خلال هذه المرحلة سوف تتشكل حركات وطنية تحررية تستند للأسُس الدينية والقومية، ومنها سوف يتبلور المنظور السياسي الوطني العربي لاحقًا، إذ أفرز الاحتلال حركات التحرّر الوطنية التي بدورها شكّلت تكتلات سياسية لتصبح فيما بعد أحزابًا سياسية، فالنزعة الوطنية تطورت بشكل متلازم مع الحركات التحررية ضد المستعمر.
ــ ثم هناك مرحلة ما بعد الاستعمار، التي أفرزت شكلًا سياسيًا يتماشى والنموذج الغربي، وهي مرحلة اختلط فيها الجانب الوطني والقومي مع تغليب كفة القومي على الوطني.
ــ وأخيرًا، المرحلة الراهنة، وهي التي ارتبطت ببداية القرن الواحد والعشرين، وهي مرحلة رسمت توجهًا وطنيًا بامتياز ووضوح على خلاف باقي المراحل، مع تغليب كفّة المصلحة الوطنية على باقي التوجهات القومية.
أصبح مفهوم الدولة الوطنية اليوم يقدّم صورة انفصالية عن التصورات المؤطرة للمنطقة العربية
في راهن سياقنا العربي، أصبح المفهوم يعكس كثافة وقوة وكذا حضورًا مقارنة مع ما كان سابقًا، إذ يمكن القول إنّ الراهن العربي يُقدّم نموذجًا لحقل تجربة وطنية غنية تُعبّر عن غِنَى مفهومي خلق سقفًا لمأمول وطني خاص بكل دولة عربية، وهو سقفٌ يتخذ الغالب نمط النهضة الاقتصادية والاستقرار السياسي، الأمر الذي ألقى بكل الاختيارات الأخرى خارج اهتمامات الدولة الوطنية.
يمكن تلخيص أهم تجليات الدولة الوطنية في السياق العربي الراهن من خلال ما يلي:
- أصبح مفهوم الدولة الوطنية اليوم يقدّم صورة انفصالية، ومعادية نوعًا ما، عن التصورات المؤطرة للمنطقة العربية في مراحل سابقة، ومنها المطلب القومي والديني، خاصّة بين الدول التي يوجد بينها نزاعات جغرافية أو سياسية أو إيديولوجية، وواضحٌ أنّ هذا العداء صار حجر عثرة أمام المشروع القومي والديني للمنطقة العربية.
- لقد أنتجت الدولة الوطنية نمطًا سياسيًا انغلاقيًا تسبّب في حالة من الاكتفاء والالتفاف حول نمط السلطة السياسية التي تعكسها الدولة الوطنية بغض النظر عن طبيعتها أو نمطها السياسي، كأنّنا أمام تأجيل أو تهميش بشكل مباشر للمساءلة النقدية لنمط الدولة، والانفتاح بالمقابل على الشعور الوطني وِفق حميمية داخلية تتغنّى بكل المقومات الذاتية بشكل مبالغ فيه، ينسج حجابًا واقيًا أمام التوجه النقدي، فيصير هنا مفهوم الدولة الوطنية مطية لتبرير استمرار السلطة السياسية في أسوأ تجلياتها.
توجهات الدولة الوطنية في جل الدول العربية تتحكّم فيها وتقودها البنية الفوقية وليس البنية التحتية
- ظهور الدولة الوطنية العربية ارتبط بطموح مرحلي هو تحقيق التماهي أو بلورة المشروع الكولونيالي لمفهوم الدولة الوطنية، مما عمل على تغليب كفة التوجه العلماني للدولة الوطنية وتهميش بشكل ما التوجه الديني والقومي. وهو توجه يتحكّم فيه بالدرجة الأولى منطق المصلحة الذاتية للدولة الوطنية.
- العملية التجزيئية التي أنتجتها الحركة الإمبريالية في المنطقة أوجدت بالمقابل أزمة هوية لبعض الدول العربية جراء النعرات العرقية المحلية والإقليمية، مما خلق صعود ما قد نصطلح عليه "تنازع الهويات الفرعية" داخل الوطن الواحد وبين دول الجوار أيضًا، هذه الأزمة التي تتخذ هذه الصراعات الإقليمية كحجاب تبريري لتثبيت الاكتفاء الوطني.
بالنتيجة، نخلص إلى أنّ توجهات الدولة الوطنية في جل الدول العربية، تتحكّم فيها وتقودها بالأساس البنية الفوقية وليس البنية التحتية، مما جعل من الأخيرة مُؤدلجة وموجهة بشكل مُمَنهج نحو توجيهات فوقية، وهو المعطى الذي أنتج تنافسية نهضوية وطنية بين الدول العربية محرّكها الأساس قيادة الركب القومي وِفق توجهات واختيارات الدولة الوطنية الواحدة، فصرنا أمام أرضية خصبة، لخلق صراعات إقليمية وتغذية بعض النعرات بين دول الجوار، التي شكّلت مناسبة للتدخل الخارجي.
(خاص "عروبة 22")