بصمات

"التجديد والتحديث" في مشروع علال الفاسي

قبل خمسين سنة رحل المفكّر والسياسي المغربي علال الفاسي الذي ساهم في قيادة حركة التحرير الوطني، وعرف قساوة الغربة واللجوء الاضطراري، وشارك بقوة في كل محطات التاريخ السياسي لبلاده بعد استقلالها سنة ١٩٥٦.

ليست هذه الجوانب السياسية البارزة في شخصية الفاسي ما يهمنا في هذا الحيز، بل مشروعه الفكري المتميّز الذي يقوم على مرتكزات ثلاثة هي: الوطنية المغربية، والإسلام الإصلاحي، والديمقراطية الليبرالية.

بالنسبة للنزعة الوطنية، الأمر هنا يتعلّق بتجذير وتعميق فكرة الدولة الاقليمية الحديثة التي لم يكن ينظر إليها في الغالب داخل الفكر العربي نظرة إيجابية حقيقية. لقد كان النعت السائد لهذه الدولة هو أنها كيان قُطري لا شرعية له أو حالة تجزيئية يتعيّن تجاوزها. وقد كان علال الفاسي على ميوله القومية العروبية واعيًا بضرورة تحصين الدولة الوطنية وتكريس الولاء الاجتماعي لها، باعتبارها مرحلة متقدّمة من الاندماج القومي وواقعًا قانونيًا لا سبيل للتنكّر له.

نجح في دمج منظومة الحقوق والحريات المعاصرة في صلب المرجعية الدينية من منظور إصلاحي تجديدي

أما الإسلام الإصلاحي فهو محور مشروع علال الفاسي الفكري، باعتباره عالم دين من الطراز الأول، تخرّج من جامعة القرويين العريقة، ورأى في الإسلام المرتكز الحضاري العميق لوحدة الأمّة وهويتها، لكنه كان سبّاقًا إلى أفكار الاجتهاد والإصلاح والتحديث من داخل الشرعية الإسلامية. ولعل الإسهام الأكبر لعلال الفاسي في الفكر الإسلامي يكمن في إعادة اكتشافه لأطروحة مقاصد الشريعة التي حوّلها من مبحث التعليل وقواعد الفقه إلى مستوى رؤية العالم الشاملة للدين، لكي تعني غاياته وثوابته الكبرى وفي مقدّمتها كرامة الإنسان وتسخير الطبيعة له وإقامة العدل والسلم في العالم. ما يطلق عليه في الأدبيات المغربية "السلفية الجديدة" هو هذا النزوع الإصلاحي التجديدي، الذي يعيد تأويل وقراءة النصوص من منظور تنويري حداثي، بما يبلغ أوجه في كتابات علال الفاسي .

لقد لاحظ المفكّر المغربي المعروف عبد الله العروي في كتابه "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" أنّ إصلاحية الفقيه (ويعني هنا على الخصوص علال الفاسي) ذهبت إلى مسلك التلفيق والتركيب للجمع بين قيم التقليد الديني وأفكار التنوير والتحديث التي تنتمي إلى سياقين متمايزين تاريخيًا وثقافيًا، لكن الحقيقة الراسخة هي أنّ علال الفاسي نجح في دمج منظومة الحقوق والحريات المعاصرة في صلب المرجعية الدينية من منظور إصلاحي تجديدي منسجم وواعٍ، لم تكن له مع الأسف التأثيرات المطلوبة في عموم العالم العربي الإسلامي. لقد كتب الفاسي هذه الأفكار الرائدة في مرحلة كانت الكتابات الإسلامية الرائجة تنظر إلى الحداثة كغزو حضاري مدان وترفض القيم الإنسانية الكونية من منطلق استقلالية التصوّر الإسلامي وواجب محاربة "الجاهلية الجديدة".

أما الديمقراطية الليبرالية، فقد شكّلت أساس المشروع السياسي لعلال الفاسي الذي أسّس أهم حزب مغربي حديث كان له دور أساسي في تنظيم وقيادة حركة التحرر الوطني. وعندما انفصل الجناح اليساري من الحزب الذي أسّس "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" ثم "الاتحاد الاشتراكي للقوات الوطنية"، حافظ الفاسي على الأفكار الليبرالية في قالب وطني محافظ، ولم تغره أساليب العمل الثوري الراديكالي والتسلطية الأحادية التي كانت غالبة على الساحة العربية وقتها .

مواقفه الليبرالية أظهرت رصانتها في الوقت الذي انحسرت فيه الأيديولوجيات الثورية والأفكار اليسارية الحالمة

ماذا بقي اليوم من مشروع علال الفاسي بعد مرور خمسين سنة على وفاة الزعيم المغربي البارز؟

بغض النظر عن استمرارية ورسوخ الحزب الذي أسّس ولا يزال اليوم في طليعة التشكيلات السياسية في المغرب، يتعيّن التنبيه إلى الاهتمام الواسع الذي يحظى به فكره راهنًا، خصوصًا أطروحته الرائدة في مقاصد الشريعة ومصالح الدين وضروراته، وآراؤه المتميّزة في الدولة الوطنية والحوار الديني والتسامح العقدي والاجتماعي، ومواقفه الليبرالية التي أظهرت رصانتها في الوقت الذي انحسرت فيه الأيديولوجيات الثورية والأفكار اليسارية الحالمة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن