وإذا كان من الإنصاف أن نقول إنّ تجريف السياسة تجذر في الثلاثين سنة الراكدة من حكم مبارك، فإنه من الإنصاف أيضًا أن نقول إنّ هذا التجريف انتقل إلى مرحلة نوعية غير مسبوقة وهي "إماتة" السياسة التي كان المجتمع المصري قد أحياها في ثورة ٢٥ يناير 2011 واستمرت فترة قصيرة مضطربة انتهت في ٣٠ يونيو ٢٠١٣، جرى بعدها تدريجيًا استبعاد تام للسياسة وإغلاق محكم للمجال العام.
على المديين القصير والمتوسط تمثّل "إماتة السياسة" وصفة مؤكدة لنشأة توترات تهدد استقرار نظام الحكم
"إماتة السياسة" في جزء منها تمثّلت في نقل سلطة صنع القرار برمتها وحصرها في دائرة ضيّقة للغاية لم تعمل بالسياسة مطلقًا، وبالتالي حصر سلطة اختيار القيادات التنفيذية على هذه الدائرة دون التفات للاعتبارات السياسية وما يغضب الناس وما يرضيهم.
رغم أنّ "إماتة السياسة" تبدو على المديين القصير والمتوسط وصفة "ممكنة" للحفاظ على بقاء النظام السياسي، فإنها على المدى الطويل تمثّل وصفة "مؤكدة" لنشأة توترات تهدد الاستقرار السياسي لنظام الحكم.
المشهد السياسي الذي شهد تشكيل مجلس وزراء "قديم-جديد" وحركة محافظين رافقته وقائع متتالية أثارت غضبًا ونقدًا لاذعًا للسياسات العامة، يمكن تلخيصها في فكرة واحدة "لقد قادت عملية قتل السياسة إلى تسيّد نوع من الخطاب السياسي ونوع من المسؤولين يفتقد بالمطلق لأي حساسية سياسية".
وبالتالي فهو لم ينجح في تفريغ جزء من حجم الغضب الشعبي الواسع على النظام السياسي بسبب الغلاء وتدهور خدمات الصحة والتعليم والكهرباء، بل حمّل هؤلاء المسؤولون النظام أعباء جديدة من النقد والغضب العارم.
ضربة البداية في حالة افتقاد الحساسية السياسية تمثّل في تفويت النظام السياسي فرصة استخدام التغيير الوزاري كوسيلة للإيحاء بأنّ الأوضاع القائمة القاتمة ستشهد تحسنًا أو تغييرًا كما كان يحدث إبان حكم نظامَي السادات ومبارك، لكن ورغم كل الغضب على النظام وعلى رأس الحكومة أبت مؤسسة القرار إلا أن تكلّف رئيس الحكومة مصطفى مدبولي مرة ثانية بتشكيل الوزارة، مضيعةً معها أي أحساس ولو مؤقت لدى الجمهور بأنّ صوت معاناتهم وصل أو أنّ تحسنًا ولو طفيفًا سيحدث.
عدم الاعتداد بالرأي العام خط أحمر عندما عَبَره نظام مبارك وصلنا إلى ثورة يناير
وإذا كانت الكيمياء الشخصية والطاعة التنفيذية تفوّقت على وضع توقعات وتمنيات الجمهور في الحسبان فيما يتعلق برئيس الحكومة نفسه، فإنّ إعلان أسماء بعض الوزراء كان أقرب إلى دفعة "نيران صديقة" مكثفة أطلقتها الحكومة على نفسها وعلى شعبية النظام السياسي المتآكلة.
وزير التعليم الجديد كان النموذج الأبرز لافتقاد الحساسية السياسية، فالرجل المسؤول الآن عن تربية وأخلاق وتعليم الملايين مُتّهم بشكل صريح بتزوير شهادته العلمية، ولم يستطع هو ولا الإعلام الرسمي تقديم دليل قاطع على أنه لم يكذب.
لم يلتفت صنّاع القرار السياسي وموجهو الخطاب الإعلامي هنا إلى أنّ الإصرار على استمرار الوزير المتهم بتزوير شهادته وعدم الاستجابة الفورية لمطلب إقالته سيترك ندبة لا تُمحى في الثقة العامة بالنظام، وأنه عبور خط أحمر غير ظاهر لكنه شديد الخطورة في عدم الاعتداد بالرأي العام وإهدار قيم الجد والاجتهاد، خط عندما عبره نظام مبارك وصلنا إلى ثورة يناير.
عدد من الوزراء القدامى والجدد في وزارة مدبولي الثانية قُدّمت ضدهم أدلة على وجود شبهة تضارب مصالح لعملهم في مؤسسات خاصة، وكانت هذه حالة أخرى صارخة من الافتقار للحساسية السياسية، زاد منها التراخي الحكومي في حسمها بسرعة واضطرار بعضهم بعد أيام غير قليلة للاستقالة من الوظائف التي تتعارض مع مناصبهم الجديدة.
الأداء التلفزيوني والحصول على اللقطة لبعض المحافظين الجدد في التعديل الأخير، كان القشة التي قصمت ظهر البعير في كيف يقود قتل السياسة واحتقارها إلى حالة من عدم الاستقرار، النظام في غنى عنها تمامًا ولديه منها ما يكفيه وما يزيد.
في الحالة الأحدث زمنيًا قام محافظ سوهاج بتوبيخ وإهانة طبيبة بإحدى المستشفيات الحكومية لعدم توقيعها الكشف على المرضى. كشف التجاوز اللفظي عن خطيئة كبيرة وهي أنّ هذا المحافظ لم يقم بواجبه لمعرفة اللوائح التي تمنع الأطباء من الكشف على المرضى قبل شرائهم لتذاكر أو أنّ المستشفيات العامة تعاني من نقص حاد في الأدوية يقف الطبيب عاجزًا إزاءها عن علاج المرضى.
على أنّ ما انتهت إليه هذه الحالة يبدو أهم من الحالة نفسها، إذ تحركت نقابة الأطباء ببيان حاسم تندد فيه بتعدي المحافظ على زميلتهم ما هدد بأزمة كبيرة قد تشل القطاع الصحي لا أحد يستطيع تحمّلها، هنا تقدّم رئيس الوزراء وفي اليوم نفسه باعتذار مباشر وعلني للطبيبة على ما وصفه بـ"تجاوز المحافظ".
المسؤول الذي تجبّر على الأسرة الفقيرة لا يستطيع مواجهة الفساد الكبير الذي يرتكبه الكبار
قبلها وفي لقطة تلفزيونية أخرى قام محافظ الدقهلية بتتبع سيدة فقيرة واقتحم منزلها وقام بتفتيشه دون مسوغ قانوني لضبط أربعة أكياس خبز، الإغارة غير القانونية للمحافظ على المنزل شديد الفقر كان دليلًا آخر على انفصال مسؤولي مرحلة قتل السياسة عن الواقع، وأنّ المصريين الفقراء يتحايلون على قسوة المعيشة وغلاء أسعار المواصلات بتجميع عدة أيام لاستلام حصصهم من الخبز فرديًا أو جماعيًا.
وحتى بافتراض أنّ هناك فسادًا صغيرًا سببه الفقر في تلاعب البعض بحصص الخبز، فإنّ المسؤول الذي تجبّر على الأسرة الفقيرة لا يستطيع مواجهة الفساد الكبير الذي يرتكبه الكبار والذي تزكم رائحته الأنوف.
على عكس الطبيبة المحمية بنقابتها وبوجودها في شريحة من شرائح الطبقة الوسطى، فإنه لا المحافظ ولا رئيس الوزراء اعتذر أي منهما لسيدة الخبز الفقيرة ليضيفوا ملمحًا آخر وأسوأ من ملامح فقدان الحساسية السياسية، وهو إبانة طبيعة انحيازات النظام الاجتماعية ضد الفقراء، فالفقراء ليس لهم ثروة تحميهم أو نقابات ترفع صوتهم.. الفقراء تدوسهم السياسات النيوليبرالية وبيروقراطية غير المسيسين، ولا أحد يراهم أصلًا.. فضلًا عن أن يتنازل ويتكرّم فيفكّر في الاعتذار لهم.
(خاص "عروبة 22")