لا شيء غير العمى السيكولوجي أو السياسي يفسِّر ذلك التصفيق الحار الذي قابل به أعضاء الكونجرس الأمريكي، مساء أمس الأول، الأربعاء، أكاذيب بنيامين نيتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي المسئول الأول والرئيسي عن الأزمة الإنسانية الكارثية غير المسبوقة التي يعيشها قطاع غزة، نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية العشوائية المستمرة منذ أكثر من تسعة أشهر، والتي أسفرت عن تسوية غالبية مساحة القطاع بالأرض، واستشهاد أكثر من 40 ألفًا وإصابة حوالى مائة ألف آخرين، غالبيتهم من النساء والأطفال.
بينما كان نيتانياهو يلقي خطابه الرابع أمام الهيئة التشريعية الأمريكية، تجمَّع آلاف المحتجين المعارضين للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بالقرب من مبنى الكابيتول، وحمل بعضهم الأعلام الفلسطينية، ووضع آخرون لافتات تقول إن نيتانياهو «مجرم حرب مطلوب للعدالة»، في إشارة إلى مذكرة الاعتقال التي طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدارها. وفي مكان قريب وضع بعض المحتجين حوالى 30 نعشًا من الورق المقوى ملفوفة بالأعلام الفلسطينية تأبينًا لضحايا العدوان الإسرائيلي. و...و... وكل هؤلاء، هاجمهم رئيس الوزراء الإسرائيلي ووصفهم بأنهم «لعبة في يد إيران»، كما هاجم «محكمة العدل الدولية» واتهمها بأنها «تحاول تقييد إسرائيل ومنعها من الدفاع عن نفسها». وفي المقابل، قالت كرامة كوميرل عضو منظمة «أطباء ضد الإبادة الجماعية»، لوكالة الأنباء الفرنسية: «نحن هنا لإبداء معارضتنا لمجيء المجرم نيتانياهو إلى عاصمتنا واستقباله من السياسيين الذين أرسلوا له الأسلحة لقتل الأطفال في غزة». وداخل الجلسة رفعت النائبة رشيدة طليب لافتة باللونين الأبيض والأسود مكتوبا على أحد جانبيها «مجرم حرب»، وعلى الجانب الآخر «مذنب بارتكاب إبادة جماعية».
عشرات المشرعين الديمقراطيين تغيبوا عمدًا عن الجلسة المشتركة لمجلسي الكونجرس الأمريكي، الشيوخ والنواب، التي ألقى فيها نيتانياهو خطابه العبثي، كان أبرزهم كامالا هاريس التى ترأس عادة مثل هذه الجلسات باعتبارها نائبة الرئيس الأمريكي. وفي مقال عنوانه «لماذا يجب أن يقاطع الديمقراطيون خطاب نيتانياهو؟»، نشرته جريدة «هآرتس» العبرية، كتب ناثان هيرش أن الديمقراطيين سيعزلون حلفاءهم الطبيعيين في إسرائيل، وسيزيدون من عزلة التقدميين في حزبهم، وسيساعدون في تعزيز فلسفة الموت والدمار، لو منحوا الشرعية لرئيس وزراء إسرائيلي ضعيف سياسيًا. وبالنسبة للجمهوريين أضاف الكاتب الإسرائيلي أن نيتانياهو «الذي لا يمثل إسرائيل عندما يزور واشنطن» هو حليفهم الطبيعي، ورسالته تتناسب بشكل مباشر مع مواقف حزبهم. ومع ذلك غاب عن الجلسة أيضًا، عدد من المشرعين الجمهوريين، من بينهم السيناتور جي دي فانس، مرشح دونالد ترامب لمنصب نائب الرئيس، فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، وتوماس ماسى الذى كتب فى حسابه على شبكة «إكس» أن الهدف من الخطاب هو «تعزيز مكانة نيتانياهو السياسية في إسرائيل وتخفيف حدة المعارضة الدولية لحربه».
المهم هو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال أمام مَنْ حضروا الجلسة: إن «الحرب ستنتهي في غزة غدًا إذا استسلمت حماس وسلمت سلاحها وأعادت الرهائن»، مضيفًا أن «الإسراع بالدعم العسكري الأمريكي يمكن أن يسرع بنهاية الحرب في غزة، وأن يساعد في منع اندلاع حرب أوسع نطاقا في الشرق الأوسط». وأكد أن إسرائيل لا تسعى لإعادة توطين سكان قطاع غزة، لكنها «تريد سيطرة أمنية»، وطالب بأن يقود القطاع «فلسطينيون لا يسعون لتدمير إسرائيل بعد الحرب مع حماس»، لافتًا إلى أن «غزة منزوعة السلاح وخالية من المتطرفين يمكن أن تفضي الى مستقبل من الأمن والازدهار والسلام». وعلى وقع التصفيق الحار، الذي لا يفسره، أو يبرره، غير العمى، السيكولوجي أو السياسى، قال نيتانياهو: «نحن لا نحمى أنفسنا فقط. نحن نحميكم، أعداؤنا هم أعداؤكم، معركتنا هي معركتكم، وانتصارنا سيكون انتصاركم». غير أن أبرز ما استوقفنا كان حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي عما وصفه بـ«محور الإرهاب الذي تقوده إيران» وزعمه أن هذا المحور «يهدد الولايات المتحدة وإسرائيل والعالم العربي»، قبل أن يتطرق إلى «حزب الله» اللبناني، الموالي لإيران والمدعوم منها، ويهدّد بأن «إسرائيل ستقوم بكل ما ينبغي القيام به لاستعادة الأمن على حدودها الشمالية وإعادة مواطنيها إلى منازلهم»!
..وتبقى الإشارة إلى أن دولة الاحتلال انتهكت، برعاية أو بحماية أمريكية، أكثر من 800 قرار أصدرتها الأمم المتحدة لمعالجة الصراع العربي الإسرائيلي، أو الفلسطيني الإسرائيلي، ما نسف مصداقية قواعد وآليات عمل المنظومة الدولية الراهنة، ولعلك تعرف أن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض، الفيتو، في مجلس الأمن، لإجهاض أي مشروع قرار ضد إسرائيل، وصولًا إلى عرقلتها حصول دولة فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وقرارات وقف إطلاق النار في قطاع غزة. وقد تكون الإشارة مهمة، أيضًا، إلى أن أعضاء مجلس الأمن، كانوا قد استمعوا، في مايو الماضي، إلى إحاطتين بشأن مقابر جماعية، تم اكتشافها في محيط مجمعى النصر والشفاء الطبيين، إحداهما من فولكر تورك، مفوض الأمم المتحدة السامى لحقوق الإنسان، الذي دعا إلى إجراء تحقيق مستقل في الظروف المحيطة بتلك المقابر. وفي الإحاطة الأخرى، أكدت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضى الفلسطينية المحتلة أن هناك أسبابًا معقولة تشير إلى ارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية.
(الأهرام المصرية)