كذلك الإنتخابات الرئاسية على الطريقة الأميركية تهزّ العالم، الحلفاء والخصوم، وتخلط ملفات القضايا والنزاعات وتتركها مفتوحة بانتظار النتائج. محاولة الإغتيال عززت من حظوظ ترامب وفرضت وقائع جديدة في الوقت الذي كان يتخبط فيه الديمقراطيون بين إقناع الرئيس بالعزوف وبين إختيار من سيحل محله إلى أن وقع الخيار على نائبة الرئيس، إمرأة من أصول آسيوية مدعية عامة مثقفة مقابل رجل أعمال يتقن الصفقات ومُلاحق بعدد كبير جدًا من الدعاوى القضائية وسوف تصدر بعض الأحكام بحقه.
خيار الديمقراطيين موفق إنما يحمل محاذير كثيرة جراء اختيار إمرأة غير بيضاء في مجتمع يعيش تجاذبات حادة ثقافية وأيديولوجية حول القيم الأميركية بين ليبيرالية متطرّفة وتشدد محافظ يميني ديني. أيضًا هذه هي الديمقراطية الأميركية.
أين هي مصلحة دول الاعتدال العربي في هذه المرحلة حيث تواجه المنطقة تغوّلًا إيرانيًا ووحشية إسرائيلية؟
إنتظار النتائج بعد نحو ثلاثة أشهر للتعرّف كيف سيكون العالم ومنطقتننا مع أميركا 2025 ليبيرالية متشددة أو يمينية متطرفة؟ فأميركا بديمقراطيتها ومؤسساتها وقوتها ومبادئ الآباء المؤسسين التي قامت عليها قادرة على معالجة الأزمات التي قد تصيبها، إنما يبقى في التحوّط للنتائج حكمة ودراية لا سيما في المنطقة العربية الموزّعة بين ممانعين ومعتدلين ومتفرّجين ومتقاتلين فيما بينهم في الداخل أو مع الخارج.
أين هي مصلحة الدول التي ما تزال تشكل النواة الصلبة لهذه المنطقة، والمقصود ما يُسمى بدول الإعتدال العربي، دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والمغرب، هل مع أميركا يمينية متشددة أم ليبيرالية متطرفة؟.
السؤال يُطرح على هذه الدول في هذه المرحلة بالذات حيث تواجه المنطقة تغوّلًا إيرانيًا غير مسبوق، مدروسًا ومنسقًا، ووحشية إسرائيلية تفوق الوصف تبيد البشر والحجر بمثابة حرب غير معلنة تشهد أحداثها غزّة ولبنان واليمن وإسرائيل.. إلى ما يعانيه السودان المنسي وما تمر به ليبيا.
طبعا العرب لا يد لهم بمن سيحكم أميركا المتغيّرة بدءًا من السنة المقبلة، إنما المعضلات التي تواجه المنطقة باقية ومتمددة. المنطقة إختبرت السياسة التي انتهجتها الإدارة الحالية وللعرب مآخذ كثيرة تبدأ من التراخي مع التدخلات الإيرانية في شؤون المنطقة إلى حدود تسليح إيران للحوثيين بما بات لا يهدد أمن الملاحة الدولية فحسب بل أمن دول المنطقة برمتها بحجة مساندة حركة "حماس" في حرب غزّة. الدول المطلة على البحر الأحمر كلها مهددة. وبات مملًا تكرار الأدوار الإيرانية في السيطرة على لبنان والتمدد في العراق وشبه وصاية كاملة على النظام السوري. الميوعة الأميركية أوصلت الأمور إلى هذا الدرك وتوّجته بالدعم الأعمى لإسرائيل على الصعد كافة في حرب غزّة وما تزال.
المأزق أنّ الدول العربية الوازنة وبخاصة دول الخليج ما تزال في الفضاء الأميركي عسكريًا وماليًا واقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا
ولاكتمال الصورة لا بد من إعادة قراءة لسياسة الإدارة الحالية منذ بداية حرب غزّة. رغم التباين في تقييم أداء الإدارة تجاه المنطقة، لا سيما دعمها الكامل لإسرائيل مقابل موقفها المعلن من "حلّ الدولتين" وتباينها الواضح والصريح مع اليمين الإسرائيلي المتشدد واعتمادها مزيجًا من القوة الناعمة والديبلوماسية مع القوة الخشنة المعبّر عنها في الأساطيل المنتشرة في المتوسط والخليج، رغم المواجهة المترددة لاستفزازات إيران وحلفائها الحوثيين في البحر الأحمر.
جو بايدن وفريقه مهما قيل تمكّن من لجم إسرائيل عن ترحيل سكان غزّة كما يشتهي نتننياهو وعمل أقصى ما يمكن مع هذه الحكومة الموتورة في إسرائيل لوقف الحرب وإطلاق الرهائن والإنتقال الى مسار "حلّ الدولتين" وتمسّك بحدود غزة وبدور للسلطة الفلسطينية بعد إصلاحها.
بالمقابل هل إدارة جديدة يمينية متشددة سوف تنتهج سياسة أقرب إلى مصالح العرب والمنطقة بعامة. يصعب التكهن بما سوف تقدم عليه الإدارة الجديدة إذا وصل ترامب إلى السلطة تجاه قضايا ونزاعات المنطقة، يمكن تلمّس معالمها من رؤية ترامب لدور أميركا في العالم والتي تميل إلى عزلة أميركا أكثر من انخراطها في الأزمات أو السعي لحلها وبخاصة القضايا التي تعني المنطقة. رؤية ترامب تتعدى تغيير منحى العلاقات مع هذه الدولة أو تلك لأنها متداخلة دون تنسيق.
مثلًا علاقته الجيدة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيكون لها انعكاساتها على الموقف الأميركي من الحرب في أوكرانيا وما قد يسفر عنه من خلافات مع الشركاء الأوروبيين فيما بينهم ومع واشنطن. كذلك لا نعرف كيف ستكون العلاقة مع الصين والمرشحة للتوتر وأزمة تايوان على الأبواب. هل العلاقة الجيّدة مع بوتين تعني تهدئة مع إيران أم أنه سيمضي بما بدأه أيام ولايته؟ سيهادن أم يعقد صفقات لا يُعرف محتواها. وأهم المهم التأثير الإسرائيلي اليميني على ترامب والحلقة المحيطة به كبير جدًا، وما قام به أيام رئاسته دليل على ذلك. فهل المنطقة قادرة على تحمّل المزيد من الدعم والإنحياز الأميركي لإسرائيل؟
مواجهة المستجدات طريقها واحدة: وحدة الموقف المبني على رؤية مستقبلية واقعية
المأزق أنّ الدول العربية الوازنة وبخاصة دول الخليج ما تزال في الفضاء الأميركي عسكريًا وماليًا واقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا رغم أهمية العلاقات مع الصين التي ليس لديها حتى الآن وليس قبل عقود عرضًا إستراتيجيًا عسكريًا تقدّمه للسعودية وبقية دول الخليج على غرار الشراكات الأمنية والسياسية والإقتصادية المعروضة من أميركا ولا بدائل عنها. على الرغم من العلاقات الإقتصادية التي تفوق العلاقات مع الولايات المتحدة. روسيا كذلك أعجز في هذه المرحلة وفي المقبل من الأيام على لعب أدوار إستراتيجية تملأ الفراغ الاميركي إذا حصل.
مواجهة المستجدات على الصعد كافة طريقها واحدة: وحدة الموقف المبني على رؤية مستقبلية واقعية تأخذ المصالح الوطنية أولًا ومقاربة إيجابية واقعية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي لا تسمح لإيران باستخدام فلسطين لتبرير كل تدخلاتها وأدوارها مع حلفائها في المنطقة.
(خاص "عروبة 22")