يقول جوزيف ناي: "وإن أمكن الوصول للأهداف من خلال القوى الخشنة، من استعمال القوة من قبل القوى الكبرى، إلّا أنّ ذلك قد يُشكّل خطرًا على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية، وحتى الثقافية، فإذا أرادت الولايات المتحدة أن تبقى قوية، فعلى الأميركيين أن ينتبهوا إلى قوتهم الناعمة".
المعرفة باتت أكبر معيار في القوة والتأثير وعمالقة التكنولوجيا أضحوا الأدوات الجديدة للسلطة وللهيمنة
إنّه يرى من غير الضروري إجبار الآخرين على التغيّر من خلال سبل التهديد والوعيد، أو اللجوء للقوة العسكرية والحصار الاقتصادي لتركيعهم، ولكن بالإمكان إجبارهم بطرق أخرى، تجعلهم "يريدون ما تريده أنت"، لكن بطريقة أخرى ودونما استفزازهم، أو استعمال الأساليب الخشنة ضدهم، بل باستعمال أساليب رخوة قوامها نشر الأفكار والمعلومات، ودعم قنوات البث الإذاعي والإرسال التلفزيوني، وترويج سلع وخدمات وبرامج معلوماتية، يكون المبتغى منها إغراءهم جميعًا بـ"مزايا النموذج الملهم". ويُتابع: "لقد أضحى من الصعب، في العالم المعاصر، استخدام العصا. إنّ القوة العسكرية، على الرغم من ضرورتها كسياسة ردع وإكراه، فقد أصبحت صعبة جدًا، وأصبحت الحرب أمرًا جد مكلف من الناحية المادية الخالصة"، دع عنك ما يترتب عنها من تبعات نفسية ومعنوية قد لا تندمل.
إنّ تشديد الأدميرال ناي على القوة الناعمة إنّما هو تشديده على مكانة ومقام المعرفة في العلاقات الدولية. المعرفة اليوم، باتت معيارًا مهمًّا، لا بل وأكبر معيار في القوة والتأثير في العلاقات بين الدول والشعوب. والقوة العسكرية والاقتصادية ذاتها، بدأت ترتبط تدريجيًا بالتكنولوجيا بمختلف أشكالها وأنواعها وتلاوينها، وأصبحت الصناعات المعرفية، مثل الحواسيب والشبكات والبرامج والتصاميم المعلوماتية والهندسة الوراثية والاتصالات والإعلام وغيرها، هي مصدر القوة الأكبر.
إنّ عمالقة التكنولوجيا الأميركيين، في الإنترنت والشبكات الرقمية وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي وما سواها، إنّما هم الذين أضحوا الأدوات الجديدة للسلطة وللهيمنة. كما أنّ أرقام معاملاتهم ووزنهم المالي بالبورصات قد باتت أكبر بكثير من النواتج الداخلية الخام للعديد من بلدان العالم، بما فيها البلدان المتقدّمة نفسها. إنّها أدوات القوة الناعمة، المرتكزة على الخوارزميات، وليس على الجنود أو الترسانات والقواعد العسكرية.
لا يُقلّل ناي، على الرغم من ذلك، من مركزية وأهمية القوة الخشنة، فهو يعتبرها ما زالت "ضرورية وحتمية"، لا سيما بإزاء "الدول القومية التي تسعى للحفاظ على استقلاليتها، وكذا المنظمات والجماعات الإرهابية"، التي تتبنى سياسات "استخدام العنف"، إلّا أنّه لا يحبذها كثيرًا، بل لا يفضل اللجوء إليها، إلّا في حالات خاصّة، أي عندما لا تستطيع أدوات وشعارات القوة الناعمة إتيان أكلها في الزمن المحدّد.
ولذلك، فالصراع مع الصين مثلًا لا يراهن على المواجهة العسكرية، بل يمتطي على النقيض منها، أدوات المنافسة الشاملة، التي قوامها البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والمنازلة بالأسواق. والدليل على ذلك أنّ الحرب التكنولوجية الجارية اليوم بين الصين والولايات المتحدة، إنّما مسرحها الجيل الخامس من الهواتف النقالة وطرق الحرير الشاملة وبرمجيات الذكاء الاصطناعي.
القوة الناعمة قد تكون أخطر وأفتك من القوة الصلبة على صعيد القتل والنتائج السياسية والاقتصادية
في صيف العام 2008، حدّد معهد بروكينغز ثلاثة أهداف كبرى كيف تستمر الولايات المتحدة في هيمنتها دون اللجوء للحروب المباشرة: اجتذاب قاطني الدول النامية إلى النموذج الأميركي ضمن استراتيجية كسب العقول والقلوب، ثم دفع تلك الدول لتبني مواقف مؤيّدة للولايات المتحدة في المنظمات الدولية، ثم تعزيز التوجهات العالمية للمواطنين الأميركيين، عبر دفعهم للانخراط في العمليات ذات البعد الإنساني، أو المقدم للأبعاد السلمية في العلاقات الدولية. بيد أنّ هذا السلوك لا يُترجم فعليًا على أرض الواقع.
القوة الخشنة تقتل حقًا، لكن القوة الناعمة تقتل أيضًا، بل إنّها قد تكون، في بعض الأحيان، أخطر وأفتك من القوة الصلبة، على صعيد القتل والنتائج السياسية والاقتصادية، وعلى صعيد عدم القدرة على مواجهتها، حيث مفاعيلها أشد وطأة وتأثيرًا. الحروب لم تعد مواجهة بين الجيوش في الميادين، بل باتت تتم عن بُعد، باستخدام المسيّرات أو بالتشويش على نُظم الاتصالات أو ضرب الأنظمة المعلوماتية الناظمة لكل القطاعات الإنتاجية والخدماتية الحساسة.
الحروب القادمة ستكون حروبًا ناعمًة، تُستخدم فيها التكنولوجيا والمعرفة والذكاء البشري، لكنها ستبقى في جزء منها خشنة أيضًا، لأنّ السياسيين والعسكريين يحتاجون إلى مادة أكثر قوة للدفاع عن المصالح القومية الكبرى، ومبررهم في ذلك هو الاعتقاد بأنّ الجمهور غالبًا ما يُفضّل "القوي المخطئ" على "المسالم الناعم".
(خاص "عروبة 22")