ولعل المثال الأشهر في هذا الصدد كان مقولة إيان سميث رئيس وزراء النظام العنصري في روديسيا الجنوبية حتى ١٩٧٩ عندما صرح بأنه لن يكون هناك حكم للأغلبية السوداء لا في حياته ولا في حياة أولاده وأحفاده، بينما كان هذا الحكم تاريخيًا أقرب إليه من حبل الوريد.
أما دور جيوش الدول الاستعمارية في حسم معارك التحرر الوطني لصالح التسليم باستقلال الشعوب المستعمَرة فمثاله الأبرز الجيش البرتغالي الذي انقلب على النظام الفاشي في ١٩٧٤، ولم يكد عام ١٩٧٥ ينتهي إلا وكانت المستعمرات البرتغالية في أفريقية كافة بالإضافة لتيمور الشرقية قد استقلت، والسبب في هذا الدور هو أنّ الجيوش الاستعمارية هي التي تشعر في الميدان بعجز القوة المسلحة وحدها عن مواجهة حركات التحرر الوطني، مهما كان الميزان العسكري مختلًا لصالح تلك الجيوش.
الواقعية السياسية تجبر طرفًا ما على تغيير مواقفه عندما يُواجَه بواقع جديد صنعه خصومه
ولقد استعرضت المقالة السابقة مؤشرات بادية الوضوح على انقسام في الرأي بين المؤسستين العسكرية والأمنية تحديدًا وبين القيادة السياسية الإسرائيلية الحالية، فهل يمكن أن يكون للجيش الإسرائيلي في هذه الحالة دور مماثل؟.
في الوقت الراهن تضغط المؤسستان العسكرية والأمنية بوضوح من أجل إبرام صفقة مع "حماس" من الواضح لأسباب معروفة أنّ نتنياهو لا يريدها، لكن السؤال المباشر والمحدد هو: هل يصل الأمر إلى تمرّد يشبه ما حدث في فرنسا ١٩٥٨ بمناسبة العجز عن حسم المعركة ضد جبهة التحرير الجزائرية؟، أو ما سبقت الإشارة إليه عن أحداث البرتغال ١٩٧٤؟.
يسارع البعض للقول بأنّ هذا مستحيل في الحالة الإسرائيلية لأنّ الجيوش الاستعمارية كانت لها أوطان تنسحب إليها، أما الجيش الإسرائيلي فوطنه هو الأراضي الفلسطينية المغتصَبة، والرد الفوري على هذه الحجة أنّ الواقعية العربية والفلسطينية قد ارتضت "حل الدولتين"، ولذلك لا يوجد ما يمنع في ظل ظروف معينة من أن ينتصر الجيش الإسرائيلي بوضوح لهذا الحل، ومن الممكن في هذا السياق الرجوع لخبرة اتفاقية أوسلو ١٩٩٣ التي اعترفت بموجبها إسرائيل - رغم السوءات العديدة للاتفاقية - بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني، وكان المفروض أن تكون مرحلة في الطريق لحل نهائي.
وقد كان رئيس الوزراء الذي وقّع هذه الاتفاقية هو إسحق رابين الذي شغل مناصب قيادية عسكرية، واشتُهِر أثناء انتفاضة الحجارة الفلسطينية التي اندلعت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي بتعليماته لقواته بكسر عظام الفلسطينيين، وهذا هو المعنى المهم الذي يساعدنا في التحليل، لأنّ أحدًا لا يتوهم أنّ هناك عسكريًا أو سياسيًا قياديًا إسرائيليًا يتبنى مواقف متعاطفة مع الحق الفلسطيني، ولكنها الواقعية السياسية التي تجبر طرفًا ما على تغيير مواقفه، وليس بالضرورة توجهاته، عندما يُواجَه بواقع جديد صنعه خصومه.
استمرار صمود المقاومة هو العامل الحاسم الذي يمكن أن يرجح تمرّد المؤسسة العسكرية على سياسات نتنياهو
وتمثّل خبرة رابين سابقة تبيّن كيف يمكن لعسكريين قياديين صهاينة أظهروا ذروة التطرف ضد الفلسطينيين أن ينحو للحلول السياسية إذا فرض عليهم الواقع ذلك، غير أنّ أمانة التحليل تقتضي التذكير بأنّ رابين قد اغتيل في ١٩٩٥ على يد صهيوني متطرف، وهو ما ينبهنا إلى أنه بفرض أنّ الجيش الإسرائيلي يمكن أن يتمرّد على نهجٍ كنهج نتنياهو فسوف يواجَه بمجتمع شديد التطرّف نرى ونتابع الآن مؤشرات أكيدة على ذلك، كما يبدو بصفة خاصة في سلوك اليمين المتطرّف الذي تمثّله الحكومة الإسرائيلية الحالية، فما هي احتمالات المستقبل إذن؟.
أدعو للدراسة الدقيقة لهذه المسألة لأنه سوف يكون لها تأثيراتها المستقبلية المهمة، ولحسن الحظ فإنّ الطريق لأن يلعب الجيش الإسرائيلي دورًا مهمًا في التوصل لتسويات متوازنة شديد الوضوح، وهو استمرار صمود المقاومة وأدائها الذي ينطوي على معجزة بكل المقاييس، فاستمرار هذا الأداء وما يسببه من خسائر متزايدة للاحتلال واستعصاء المقاومة على محاولات القضاء عليها هو العامل الحاسم الذي يمكن أن يرجح حدوث تمرّد للمؤسسة العسكرية على السياسات القائمة لنتنياهو وحكومته، فكلما زادت خسائرها تيقنت من استحالة القضاء على المقاومة عسكريًا، وضرورة ارتياد أُفُق سياسي سعيًا للخلاص من ورطتها الحالية، ولعل خصوم المقاومة من الفلسطينيين والعرب يدركون فحوى هذه الرسالة، ويراجعون سلوكهم المعيب.
(خاص "عروبة 22")