اقتصاد ومال

الجريمة المنظّمة ومستقبل المجتمعات (2/3)قراءة في "مؤشر الجريمة المنظّمة العالمي 2023"

تطرّقنا في الجزء الأول من المقالة إلى بعض مضامين "مؤشر الجريمة المنظّمة العالمي 2023"، الصادر مؤخرًا، وخلُصنا إلى أنّه يُستفاد من هذا المؤشر أنّ الجرائم المالية ذات انتشار واسع في العالم، وللمفارقة فإنّها مرتبطة في الغالب بجهات إجرامية مرتبطة بالأجهزة الإدارية لبعض الدول، مما يُشكّل فعلًا تحديًا ضخمًا للإقلاع الاقتصادي في الدول النامية.

الجريمة المنظّمة ومستقبل المجتمعات (2/3)
قراءة في

يُعتبر مفهوم الجهات الفاعلة الإجرامية، من مكوّنات مؤشر الجريمة المنظمة، ويُراد به الجهات التي هي مسؤولة عن الفعل الإجرامي، وهي خمسة أنواع: الجماعات التي على غرار المافيا والشبكات الإجرامية، والجهات الفاعلة التابعة للدولة والجهات الفاعلة الأجنبية والجهات الفاعلة في القطاع الخاص.

يلاحظ التقرير بأنّ الجهات الفاعلة التابعة للدولة هي الجهة المستحوذة على أكبر حصة من النشاط الإجرامي في كافة أنحاء العالم، بمتوسط 5.95 من النقاط. وقد تنامى حضورها وتأثيرها في المشهد الإجرامي مقارنةً بسنة 2021 بحوالى 0.20 نقطة.

الفساد الإداري وتورط بعض السياسيين ورجال الدولة ساهم إلى حد كبير في توفير بيئة للجريمة المنظّمة

و"تُبيّن النتائج مجمعة كيف أنّ الجهات الإجرامية التي تشكّل جزءًا من جهاز الدولة أو تتصرّف من داخله لا تزال تشكّل عائقًا رئيسيًا أمام وضع وتنفيذ استراتيجيات فعالة لمكافحة الجريمة المنظّمة" (المؤشر، ص: 58). بل إنّ باقي الجهات الفعالة الإجرامية، هي في تنامي مستمر، لكن بالطبع الفساد الإداري في أجهزة بعض الدول، وتورط بعض السياسيين ورجال الدولة، ساهم إلى حد كبير، في توفير بيئة للجريمة المنظّمة، في مختلف بلدان العالم.

يشير التقرير كذلك إلى مفهوم القدرة على الصمود، ويُعرّفه المؤشر بـ"إمكانية التصدي للأنشطة الإجرامية عمومًا وتعطيلها، بدلًا من الأسواق الفردية، من خلال التدابير السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية. وتشير القدرة على الصمود إلى التدابير التي تتخذها البلدان، سواء من قبل الجهات التابعة للدولة أم غير التابعة للدولة". (المؤشر، ص:40).

تتضمن مؤشرات القدرة على الصمود: القيادة السياسية والحكم، الشفافية والمساءلة الحكومية، التعاون الدولي، السياسات والقوانين الوطنية، النظام القضائي والاحتجاز، إنفاذ القانون، السلامة الإقليمية، مكافحة غسل الأموال، القدرة التنظيمية الاقتصادية، دعم الضحايا والشهود، الوقاية والجهات الفاعلة غير التابعة للدولة.

تشير هذه المؤشرات إلى تعقّد مسألة قياس قدرة الدولة على الصمود، ذلك أنّ الأمر يحتاج إلى منظومة متكاملة من القوانين والسياسات العمومية والوعي بأهمية وشروط الحكم الرشيد كما هناك حاجة إلى مجتمع مدني قوي، قادر على الترافع على حماية حق المواطنين في الأمن الشامل.

ومن الملاحظ أنّ أكثر المناطق ضعفًا من حيث القدرة على الصمود، هي مناطق شمال أفريقيا، وشرق أفريقيا ووسط أفريقيا. وهذا التدني يُشير إلى ضعف جليّ في مجالات متعدّدة، ومن ذلك عدم احترام حقوق الإنسان والتعثر في صيانتها وتنفيذها. وانتهى مؤشر الجريمة المنظّمة إلى صياغة عدة نتائج (النتائج الشاملة والنتائج المواضيعية والنتائج الجغرافية)، كما تضمنت النتائج الشاملة، نتيجة أولى، وهي أنّ الهوة بين الإجرام وقدرة الصمود آخذة في الاتساع، إذ تُبيّن من خلال الإحصائيات والبيانات المتوفرة، ارتفاع نسبة السكان الذين يعيشون في بيئة أو بلدان مرتفعة معدلات الجرائم، ووصل ذلك إلى حوالى 83%، بينما كانت هذه النسبة حوالى 79% في 2021.

وفي الوقت نفسه الذي يتنامى فيه الإجرام في العالم، فإنّ معدلات انخفاض عدد الأشخاص الذين يعيشون في بلدان تعاني من العجز أو الضعف في الصمود، تبقى مستمرة؛ بحيث يقطن حاليًا حوالى 62% من ساكنة العالم في مجتمعات، قدرتها منخفضة على الصمود، مقارنةً بـ % 74 .4.

وتُعتبر الصين من بين الدول التي عرفت تحسّنًا طفيفًا في القدرة على الصمود، حيث ارتفع المؤشر ووصل إلى 4.81، على إثر إقرار الصين أول قانون لمكافحة الجريمة المنظّمة فيها، بالإضافة إلى التحسّن في مواجهة جرائم غسل الأموال. وعمومًا فانّ مؤشّر الاجرام قد وصل حوالى 5.03 .

النزاعات تخلق بيئة مناسبة للإجرام بحيث تكون المجتمعات في وضع الهشاشة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية

أمّا النتيجة الثانية، ضمن النتائج الشاملة، فهي تأكيد المؤشر على أنّه "لا تزال الأنظمة تتمتع بقدرة أعلى على الصمود"، لأنّها أنظمة ترسّخ دولة القانون، وتعتمد الشفافية وتنفذ الإجراءات الزاجرة وتدعم دور المواطنين في إدانة الجريمة المنظّمة.

بخصوص النتيجة الثالثة من النتائج الشاملة، فتفيد أنّ النزاع يزيد من الضعف أمام الجريمة المنظّمة، وأنّ النزاعات تخلق بيئة مناسبة للإجرام، بحيث تكون المجتمعات في وضع الهشاشة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.

الدول التي تعاني من عدم الاستقرار بسبب الحروب الأهلية والنزاعات، تعاني من ارتفاع مؤشرات الجريمة المنظّمة، مثل أفغانستان والعراق وميانمار وإثيوبيا ومؤخرًا أوكرانيا.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن