لم يكن أعضاء الحزب الديمقراطي في حاجة إلى أن يتلعثم چو بايدن أو يفقد تركيزه في مناظرته الرئاسية مع منافسه دونالد ترامب، حتى يتأكدوا أنّ بايدن لا يصلح للترشّح لمدة رئاسية ثانية، وأنه سيخرج من البيت الأبيض إن هو ترشّح أمام ترامب بخطابه الشعبوي الذي يخاطب شريحة واسعة من الناخبين الأمريكيين.
لم يكن الديمقراطيون في حاجة إلى دليل جديد على تدهور الحالة الذهنية لچو بايدن، فلقد حفلت سنوات رئاسته بالعديد من السقطات التي كانت تؤكد عدم لياقته، ومع ذلك ظلّ يكرّر اعتزامه الترشّح لمدة رئاسية ثانية، وانقسم الديمقراطيون أنفسهم ما بين تأييد ترشّحه والشك في أنه قادر على مواصلة السباق الانتخابي بنجاح، إلى أن جرت المناظرة مع ترامب فزادت عليه الضغوط.
أيّهما أكثر تعبيرًا عن الإرادة الشعبية: ديمقراطية المؤسسات أم ديمقراطية الشارع؟
قارَنتُ هذا المشهد الانتخابي بمشهد آخر يشبهه على المستوى العربي مع اختلاف في بعض التفاصيل. في عام ٢٠١٣ أصيب الرئيس الجزائري الأسبق عبد العزيز بوتفليقة بجلطة دماغية وكان قد قضى في الحكم ثلاث فترات رئاسية، استطاع خلالها رأب صدع المجتمع الجزائري الذي انخرط في حرب أهلية دموية من مطلع التسعينيات لنهايتها عُرفت إعلاميًا باسم "العشرية السوداء".
لم يؤثّر مرض بوتفليقة على ترشّحه لعُهدة رئاسية رابعة في عام ٢٠١٤، فلقد كانت امبراطورية الفساد المحيطة به مصممة على بقائه كواجهة سياسية لتحقيق مصالحها الاقتصادية. وصار معلومًا للجميع أنّ شقيق الرئيس، سعيد بوتفليقة، هو الآمر الناهي في الجزائر، لكن ما أن تمّ الإعلان عن تأهُب الرئيس بوتفليقة للترشّح لعُهدة رئاسية خامسة في أبريل/نيسان ٢٠١٩ حتى انفجر غضب الشارع الجزائري.
لم تنفع محاولات سعيد بوتفليقة إخفاء خطورة مرض شقيقه بالإيعاز للإعلام بنشر أخبار لقاءات رئيس الجمهورية بالمسؤولين الجزائريين والأجانب، ولا نجحَت محاولات إقناع المحتجّبن بتأجيل الانتخابات حتى يتمكّن هو ومجموعته التي أطلق الشعب عليها اسم "العصابة" ترتيب أوضاعهم، فلقد استمرّت المظاهرات الحاشدة لأسابيع طويلة وشملَت الجزائر من أقصاها إلى أقصاها، وشارك فيها العرب والأمازيغ ومختلف الفئات الاجتماعية من كل الأعمار. وفي النهاية صدر بيان منسوب للرئيس قال فيه: "حالتي الصحيّة وعمري لا يسمحان لي إلا بأداء واجبي الأخير تجاه الشعب"، وأضاف: "لم يكن لديّ نيّة قط للترشّح للانتخابات الرئاسية"، وكأن الشعب بلا ذاكرة.
في تأمّل المشهدين الأمريكي والجزائري ماذا نجد؟، نجد رئيسين، كلاهما كانا يبلغان 82 عامًا عند إعادة ترشّحهما للرئاسة. كل من الرئيسين واجه ضغوطًا داخلية كي لا يترشّح، مع فارق أنّ الضغوط في الحالة الأمريكية أتت من الديمقراطيين أساسًا بعد أن توصّلوا لضآلة حظوظ بايدن في الفوز بمدة رئاسية ثانية، بينما اشتركَت في الضغط في الحالة الجزائرية كافة التيارات السياسية باستثناء "جبهة التحرير الوطني" وشريكها في حكومة أحمد أويحيي "التجمع الوطني الديمقراطي". وهذا يعيدنا للجدل القديم/الجديد حول أيّهما أكثر تعبيرًا عن الإرادة الشعبية: الديمقراطية غير المباشرة التي تُمارَس بواسطة المؤسسات، أم الديمقراطية المباشرة التي يمارسها الشارع؟.
لم نعد ننبهر بالديمقراطية الأمريكية ولا بتمثال حريّتها
على صعيد آخر، ذهب الرئيس بوتفليقة إلى ربّه وحوكم أخوه وبعض أركان حكمه بمن فيهم رئيس الوزارة أويحيي وصدرَت ضدهم أحكام بالسجن. ولا نعرف مآل بايدن بعد أن قال چيمس كومر رئيس لجنة الرقابة بمجلس النواب الأمريكي، والتي تحقّق مع بايدن بسبب سوء استخدامه الوثائق السريّة الخاصة بأوكرانيا والصين: "إننا نواجه أكبر فضيحة فساد سياسي". تذكّرتُ هذا التصريح وأنا أستمع لتعليق كامالا هاريس على تنحّي بايدن قائلة إنّ إنجازاته في فترة واحدة فاقت إنجازات الرؤساء السابقين في فترتين متتاليتين.
لا نزعم أننا نتمتع بالديمقراطية في عالمنا العربي، لكننا في الوقت نفسه لم نعد ننبهر بالديمقراطية الأمريكية ولا بتمثال حريّتها.
(خاص "عروبة 22")