تبدّل العالم العربي تبدّلاً جذريًا منذ الثلاثينات في القرن العشرين وحتى يومنا هذا. ففي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى نشطت حركات التحرّر الوطني في زمن كانت فيه كل البلدان العربية تحت سيطرة القوى الأجنبية. ولم نكد نصل إلى بداية السبعينات حتى كانت كل البلاد والدول قد أزاحت قوات الاستعمار.
وليس العالم العربي وحده الذي تغيّر ولكن التوازنات الدولية تبدّلت أيضًا، وبعد انكفاء الدول الاستعمارية القديمة انكلترة وفرنسا بشكل خاص، حتى برز الصراع إبان الحرب الباردة بين الاتحاد السوڤياتي والولايات المتحدة الأميركية، وتجلّى ذلك الصراع في أزمة الصواريخ الكوبية ثم في حرب ڤيتنام. وكان انفتاح الصين الشعبية على الولايات المتحدة الأميركية، ثم نهاية الحقبة الماوية، قد فكّ عزلة الصين التي أصبحت في غضون عقدين من الزمن قوة اقتصادية كبرى. وإذا كان صعود القومية العربية قد ترافق مع الحرب الباردة - وانبثاق مجموعة دول عدم الانحياز - فإن الاتحاد السوڤياتي قد تصدّع وانفرط عقد المنظومة الاشتراكية وأصبح عدم الانحياز بين الشرق والغرب مجرد اسم دون مسمّى.
النزاعات والطموحات "الوطنية" أدّت إلى صراعات انتهت بتدمير البلدان وجعلها ساحات للتدخلات الخارجية
إنّ التطوّر الأساسي الذي شهده العالم العربي هو صعود الوطنيات، فنَيل الاستقلال لم يعزّز دوافع الوحدة، بقدر ما عزّز مصالح الوطنية وتقدّمها على المصالح المشتركة.
بل إنّ أنظمة القومية العربية لم تقتصر في تعزيز النزعة الوطنية في كل بلد حَكَمته، فمنذ بداية الستينات يستمرّ النزاع الجزائري المغربي، وسعى العراق إلى ضمّ الكويت باعتبارها محافظة عراقية. ولطالما حاول النظام السوري أن يحقق أحلام سوريا الكبرى. وهذه النزاعات والطموحات "الوطنية"، أدّت إلى صراعات انتهت بتدمير البلدان وجعلها ساحات للتدخلات الخارجية.
ومنذ عام 1944، قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، تأسّست جامعة الدول العربية، وقد لعبت مصر دورًا رئيسيًا في المفاوضات التي أفضت إلى قيامها، وبعد ثورة يوليو عمل الرئيس عبد الناصر على استخدامها كأداة من أدوات سياسته القومية. وربما تكون مؤتمرات القمة التي كانت تعقد حين تدعو الحاجة قد أدّت إلى تبريد النزاعات وتخفيف الاحتقانات بين دولة وأخرى. إلا أنّ الجامعة العربية أخفقت في أن تكوّن إطارًا للتعاون الاقتصادي أو التنمية. كما أخفقت في إيجاد ما يشبه الوحدة الجمركية أو تقريب المناهج التربوية. ومن الواضح ان اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة سنويًا، ليس إلا مناسبة لإصدار بيان مشترك حافل بالعموميات. وبالمقابل فإن محاولات إقامة أطر للتعاون الإقليمي لم تحقق نجاحات باهرة.
الوصول إلى شكل من أشكال "الاتحاد العربي" يقوم على أسس المصالح وليس الشعارات
لقد انطوى الزمن الذي كان يحلم فيه منظّرو القومية العربية بالوحدة الشاملة، أو الوحدة الاندماجية التي كانت الوحدة السورية المصرية دليلًا ساطعًا على إخفاقها. بالمقابل فإنّ الدعوة إلى تفعيل جامعة الدول العربية، وهي المؤسسة الوحيدة التي تجمع الدول العربية لا يمكن أن تحصد أي نتيجة ملموسة ما لم تكن دعوة مماثلة متأتية من تيار فاعل يضمّ أولئك الذين يؤمنون بأنّ التعاون العربي والوصول إلى شكل من أشكال الاتحاد (على غرار الاتحاد الأوروبي) يقوم على أسس المصالح الملموسة وليس الشعارات الخلابة.
التيار العروبي لا بدّ أن ينهض على الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
إن العروبة المعاصرة لا بدّ أن تستعيد بعض ما كانت عليه العروبة في مطلع القرن العشرين، حين كانت تضمّ تحالفًا واسعًا من التيارات الليبرالية والعلمانية والإصلاحية المؤمنة بتداول السلطة في إطار ديمقراطي برلماني. لقد عرفت مصر وسوريا والعراق في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين بداية حياة سياسية برلمانية وتيارات حزبية قبل أن يتصدّر تيار الحزب الواحد الذي مهّد لأنظمة الاستبداد التي ألغت الديمقراطية وحوّلتها إلى مهرجانات من الاستفتاءات المقررة نتائجها سلفًا.
إنّ أيّ تيار عروبي لا بد أن ينهض على أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات الثقافية وكل ذلك انطلاقًا من مبدأ التعددية، يُضاف إلى ذلك بناء تصوّرات حول التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لقراءة الجزء الأول: العروبة والقومية العربية (3/1)
لقراءة الجزء الثاني: العروبة والقومية العربية (3/2)
(خاص "عروبة 22")