يمكن لنا رسم معالم أو مطالب التقدّم في مستويات ثلاثة:
أولًا- مستوى العقلنة والانتصار للمعرفة، حيث باتت ميزة المجتمعات المتقدّمة، تفيد تكثير المعرفة بأوجه الحياة، وإجراء المفاضلة بين العقلاني واللّاعقلاني، والمماثلة بين العلمي والمادي ضمن نظريات المعرفة والتفكير.
ثانيًا- مستوى التَّقليل من قيمة القدماء في أعين التقدّميين، وتظهر هذه الميزة من ميزات التقدّم في نقد طرائق التفكير القديمة بما احتوته من إبداعات في التخييل والتفكير، وباتت جهود القدماء تعكس المرحلة الدينية اللّاعقلانية أو الميتافيزيقية الماهوية، بينما ميزة المعاصرين هي الوعي العلمي والتنظيم الإداري العقلاني وتمجيد الحياة وتقدير السعادة.
التعليم هو روح التقدّم وبقدر ما تنتشر المعرفة وتسود بقدر ما تحدث الحرية
ثالثًا- مستوى الوعي بالتعليم لإنهاء العبودية، فقد اعتبر الماركيز دي كوندورسي في كتابه "لوحة تاريخية في تقدّم العقل البشري" سنة 1795، أنّ التعليم هو روح التقدّم، وبقدر ما تنتشر المعرفة وتسود بقدر ما تحدث الحرية، الحرية بمعناها المُركّب وليس البسيط، أي سيادة الذات الإنسانية الفردانية، فالتَّعليم يكشف ويكاشف أصول العبودية ويفتت مركزياتها.
تلك هي إذن، السمات أو الأرجل التي انطلقت منها مركبة التقدّم: المزيد من المعرفة والقطيعة مع تراث القدماء والحرية، لكن هذه الحركة السعيدة والمنتشية بانتصاراتها لم تحفظ قيمها الأصلية، بل أحدث شرورًا تفوق شرور القدماء الماضويين واللّاعقلانيين، وتظهر هذه الشرور في النقاط الآتية:
المعرفة كإرادة قوة: لقد فقدت المعرفة قداستها ضمن نسق التقدّم الحديث، حيث باتت أداة من أدوات إرادات القوى، ووسيلة من أجل الهيمنة والتسلُّط، تُسلط المعرفة العلمية المادية على غيرها من المعارف الأخرى، وتُسلط الإنسان على الانسان بالمعرفة أيضًا.
كسر ألواح القيم القديمة وفقدان الهوية: ليست مظاهر فقدان إنسانية الإنسان، والعبث بالجنس البشري تغييرًا وتخليطًا، إلّا نتيجة لتلك الرغبة الجامحة في كسر ألواح القيم القديمة، والتقليل من عبق العتاقة وأنوار التاريخ، فالتقدّم قذف بالإنسان في صيرورة التاريخ، من غير أن يرسم له دروبًا أخرى للهوية وللذَّات أي للثقافة، ولم تجد الذات فيما بعد أساساتها إلا في النَّفسانية والغرائزية كمبادئ في التقويم والتشريع.
الحرية المتسلطة والتعليم المنفصل عن القيمة: ليست حرية التقدّميين كحرية الإنسانويين، فإذا كان الإنساني يقدّر حرية الإنسان بما هو إنسان وذو كرامة أصلية، فإنّ التقدّمي ينتحل معنى للحرية ذاتيًا وتسلطيًا، فهو يمارس حرية القوي في مقابل الضعيف، حرية المركز في مقابل الأطراف، حرية أنّه بطل الرواية ومخرج المسرحية، وما نراه أمامنا اليوم، إلّا الشواهد المثلى على هذا النوع من الحرية.
الأقوى يستضعف غيره ويستبيح روحه وأرضه، من غير معايير كلية أو مفاهيم أخلاقية إنسانية، ولو أنّه وجد سبيلًا كي لا يشترك مع بقية الناس في الصورة الشكلية لفعلها وأنّى له ذلك؟ وفي ظل هذه الحرية المتسلطة، نمت أنظمة تعليمية، لا تعير لتكامل المعرفة والقيم أهمية، فالمعرفة والتعليم قد أضحتا في قبضة مالكي الأموال والمؤسّسات التجارية، وبالتالي، متى ابتغى التعليم النجاح، فما عليه إلّا أن يكون وسيلة من وسائل تحقيق ذلك، أمّا التعليم الذي لا زال يبث القيم ويُعلّم الأخلاق فهو ليس من أهدافها ولا تريد له أن يكون.
انقلاب القيم على ما وضعت من أجله بسبب النفسانية الإنسانية الراغبة دومًا في الهيمنة والتحكّم والتسلُّط
لنقل إذن أنّنا في واقعنا العالمي اليوم، ندفع فواتير قيم التقدّم التي دفعت بها الإنسانية الغربية إلى حركة التاريخ؛ إنّها لدغة التقدّم في فعلها الواقعي اليوم، وفي المكان العربي وأجزاء أخرى من الإنسانية الذي رغم إرادة الإذابة والتمييع والصَّهر، فإنّه لا يزال يحافظ على موروثة التاريخي المتنوّع، وبالتالي، فإنَّ أفق المستقبل، سيكون لتلك النماذج الإنسانية التي تؤمن بمقولات ثلاثة هي: تكامل المعارف من أجل وحدة الإنسانية، التَّواصل الحي والخلّاق مع الموروث الذي لا يختزل في المعرفة بل هو فلسفة في تدبير الذات، والحرية الإنسانية الأصلية، خاصّة الروحية منها، لأنّها سابقة على معاني الحرية المادية والمنفعية والنّسبية.
إنّ لدغة التقدّم، تعني انقلاب القيم الأولى على ما وضعت له أو من أجله في الأصل، بسبب النفسانية الإنسانية الراغبة دومًا في الهيمنة والتحكّم والتسلُّط.
(خاص "عروبة 22")