وقعت الحادثة يوم 31 يوليو المنصرم في منطقة جبيت التي تبعد حوالى 100 كلم عن العاصمة المؤقتة، بورتسودان، وهي منطقة بها عدد من المنشآت العسكرية ومراكز التدريب التي يمر بها ضباط الجيش السوداني في دورات حتمية. ولأنها تصادفت مع حادثة اغتيال القائد الفلسطيني اسماعيل هنية فإنها لم تجد التغطية الإعلامية الكبيرة المتوقعة في مثل هذه الظروف.
كان البرهان يحضر تخريج عدد من الضباط المتدربين حين استهدفت مسيّرة أو مسيّرتان، بحسب بيان الناطق الرسمي للجيش، مكان الاحتفال، وأحدثت تفجيرًا تسبب في مقتل خمسة من الأشخاص وسقوط عدد آخر من الجرحى. وبحسب التحقيقات اللاحقة فإنّ المسيّرة ليست من النوع المتطور، وإنما هي شبيهة بالنوع الذي يتم استخدامه في التصوير من أعلى، وقد تم تعديلها لتحمل كمية من المتفجرات.
شكوك حول مصدر إطلاق المسيّرة التي استهدفت البرهان وبرز احتمال أن يكون الأمر مدبرًا من داخل الصف الواحد
تركزت التساؤلات حول مكان انطلاق المسيّرة، فطالما هي ليست من النوع المتطور، فإنّ مداها بالضرورة محدود، وبالتالي فإنّ هناك شكوكًا كثيرة حول منطقة انطلاقها، خاصة وأنّ مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، المتهم الرئيسي في الحادثة، تبعد كثيرًا عن مكان سقوط المسيّرة. ارتبط بهذا السؤال تساؤل آخر حول من يقف وراء إطلاق هذه المسيّرة ويستهدف الفريق البرهان، هل هو بالضرورة قوات الدعم السريع باعتبار أنها في حالة حرب مع الجيش الذي يقوده البرهان، أم أنّ هناك احتمالات أخرى توسّع دائرة الاتهام لتشمل جهات أخرى.
الجهات الرسمية والمنصات الإعلامية والغرف الإلكترونية المساندة للجيش اتفقت كلها على اتهام قوات الدعم السريع بالمسؤولية عن إطلاق المسيّرة ومحاولة اغتيال البرهان، خاصة وأنّ قوات الدعم السريع سبق أن استهدفت عددًا من المناطق بهذه المسيّرات، وإن لم تعلن مسؤوليتها عن الحادث. وكانت الحادثة الأولى في شهر رمضان الماضي حين استهدفت إحدى المسيّرات إفطارًا رمضانيًا لكتيبة "البراء بن مالك" في مدينة عطبرة، وهي كتيبة تتبع للحركة الإسلامية وتقاتل مع القوات المسلحة الرسمية، ثم تتابعت المسيّرات المرسلة لمدن مختلفة (القضارف وشندي ومروي وكوستي).
منذ الحادثة الأولى بدأت الشكوك حول مصدر إطلاق المسيّرة، وبرز احتمال أن يكون الأمر مدبرًا من داخل الصف الواحد لتصفية بعض الحسابات والخلافات، ومما ساهم في زيادة الشكوك أنّ الجهات الرسمية امتنعت عن التعليق على الحادثة، ولم تُشِر حتى لوجود تحقيق فيها، مثلما جرت عليه الأمور في الحوادث المشابهة.
تزامنت الحادثة الأخيرة مع الدعوة الأمريكية لطرفَيّ الحرب للتفاوض في جنيف في 14 أغسطس الجاري، وتردد الجانب الحكومي في إعلان الاستجابة للدعوة. وأجرت قوى إقليمية ودولية اتصالات متعددة مع قائد الجيش البرهان وبعض معاونيه. وقالت المصادر إنّ البرهان وعد بالمشاركة، في حين أنّ هناك أطرافًا متعددة داخل الجيش تعترض على المشاركة في التفاوض وتميل لوجهة نظر الحركة الإسلامية المتحالفة مع الجيش والرافضة لأي تفاوض والداعية للاستمرار في الحرب.
وبدا واضحًا من مواقف المنصات الإعلامية المختلفة أنّ الحركة الإسلامية، وحلفاءها، تحشد للموقف الرافض للتفاوض، وتركّز الهجوم عل البرهان وكل من ينادي بالذهاب إلى جنيف، بل دعت بعض هذه الرسائل للانقلاب على البرهان حال قبوله الدعوة واستبداله بمساعده الثاني الفريق باسر العطا الذي يجاهر برفض التفاوض.
خيارات البرهان صارت محدودة ولم يعد بإمكانه التأرجح بين ضغوط حلفائه الإقليميين والدوليين وضغوط حلفائه المحليين
لهذا فقد ذهبت بعض الآراء لتقول إنّ المسيّرة انطلقت من داخل المساحة الجغرافية الآمنة التي لا وجود فيها لقوات الدعم السريع، وهي بالتالي نيران صديقة من داخل البيت الواحد، والاحتمال الاكبر أنها رسالة تحذير وليست محاولة اغتيال شخصي، وإلا فإنه كان من الأفضل استهداف الطائرة الهليكوبتر التي أقلت البرهان من بورتسودان.
ورسالة التحذير تقول إنّ الذهاب لمنصة التفاوض في جنيف تعني الطلاق البائن مع البرهان، وهو طلاق قد ينتهي بالتصفية، مع تضمين الرسالة إشارة إلى أنّ اليد الطويلة قادرة على اللحاق به في أي مكان.
خيارات البرهان صارت محدودة فيما يبدو، الواقع الميداني والأوضاع الإنسانية الكارثية مع ضغوط حلفائه الإقليميين والدوليين تدفع به للتفاوض، بينما ضغوط حلفائه المحليين تتجه نحو رفض التفاوض، ولم يعد بإمكانه التأرجح بين الخيارين، كما اعتاد أن يفعل، فقد حانت ساعة المواجهة واتخاذ الخيار المناسب مع الاستعداد لدفع الثمن، هنا أو هناك.
(خاص "عروبة 22")