لن يكون "المشروع العربي" للمستقبل ممكنًا دون تأييد نخبوي وجماهيري، كما كان الحال على سبيل المثال في ذروة معارك التحرّر العربي في خمسينات القرن الماضي وستيناته، وأجتهد في هذه المقالة للتوصل إلى إجابة على السؤال الذي اخترتُه عنوانًا لها.
سوف أهتدي، مع تحيّزي الكامل للعروبة، في اجتهادي هذا بالمدرسة الواقعية التي أعتقد بضرورتها القصوى للخروج مما نحن فيه، ولا تعني هذه المدرسة بطبيعة الحال القبول بالواقع، وإنما قيمتها أنها تُشَرحه لمعرفة عوامل القوة والضعف فيه، فتُعَظّم من الأولى وتعالج الثانية لتوسيع دائرة الخيارات المستقبلية، ولو لم يكن عبد الناصر قد درس بمنتهى الموضوعية أسباب هزيمة ١٩٦٧ لما تمكّن من إعادة بناء الجيش المصري في زمن قياسي، وتحقيق إنجازات خارقة من خلاله في حرب الاستنزاف، وإعداده الكامل لخوض حرب تحرير سيناء، فما هي الإجابة الواقعية الموضوعية عن السؤال الذي تطرحه المقالة؟
النظام العربي الرسمي لم يتمكّن من بلورة بديل لسياسات الرئيس المصري الراحل أنور السادات
يجب التفرقة بدايةً بين المستويين الرسمي وغير الرسمي، فعلى الصعيد الرسمي تبدو الإجابة واضحة، وقد اختار السيد فؤاد السنيورة في مقالته الاستهلالية الرصينة للتعريف بهذا الموقع التأريخ لحملات ما أسماه بـ"نعي العروبة" في عام ١٩٦٧، وهو اختيار لا شك في صدقه وجدّيته، ففي ذلك العام تلقى مشروع التحرّر العربي الذي قاده الزعيم عبد الناصر باقتدار ضربة قوية كان من شأنها دخول العرب في سبات عميق لعقود لولا وعي الجماهير وتضحياتها، وصلابة القيادة وسلامة رؤيتها، ومن هنا جاء الصمود وإعادة البناء وحرب الاستنزاف وصولًا لحرب أكتوبر١٩٧٣ التي كان من شأنها أن ترتفع بالنظام العربي إلى مستوى جديد من القوة والفاعلية لولا الانقسام المصري-العربي على سياسات التسوية مع إسرائيل، وهو انقسام وجد منطقه في الرفض العربي لتحويل الصراع العربي-الإسرائيلي من قضية تصفية استعمار إلى "نزاع دولي".
غير أن المشكلة للأسف أن النظام العربي الرسمي لم يتمكّن من بلورة بديل لسياسات الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى أن تمّ قبول منطق التسوية السياسية عربيًا بموافقة قمة فاس ١٩٨٢ على المبادرة الشهيرة للتسوية، ثم تلاشت تدريجيًا المقاطعة الرسمية العربية لمصر مع تطورات الحرب العراقية-الإيرانية (١٩٨٠-١٩٨٨)، ولم تكد الُلحمة تعود للصف العربي حتى وقع الغزو العراقي للكويت لينقسم العرب كما لم ينقسموا من قبل، والأخطر أنّ تداعياته أدخلت الولايات المتحدة رقمًا مهمًا له أنصاره في معادلة الأمن العربي.
لا شك في تراجع "العروبة الرسمية".. لكن ماذا عن العروبة بين النخب والجماهير؟
ولم تكد المصالحة العراقية-الكويتية تكتمل في قمة بيروت ٢٠٠٢ حتى وقع الغزو الأمريكي للعراق الذي ما زلنا نعاني من تداعياته حتى الآن، خاصة وقد تشابكت مع تداعيات الانتفاضات الشعبية العربية منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن، فوصلنا إلى الوضع الراهن الذي يتّسم بانتشار الصراعات وعدم الاستقرار داخل عديد من الأقطار العربية وتهديد كيانات دولها الوطنية، وتفاقم الإرهاب والاختراق الخارجي للنظام العربي، وانعكس ذلك على أهم قضايانا كما نرى مثلًا في تآكل الظهير العربي لفلسطين، ومن هنا فإنه لا شك في تراجع "العروبة الرسمية".. فماذا عن العروبة بين النخب والجماهير العربية؟ وهي الأهم في هذا المجال.
أحاول الإجابة في المقالة القادمة بإذن الله.
(خاص "عروبة 22")