بصمات

في "دونيّة" المرأة وأسبابها العميقة

يشيع خطأٌ كبير في النّظر إلى المرأة ودونيّةِ موقعها، في مجتمعاتنا، لدى قسمٍ كبيرٍ من الكتّاب والمثـقّـفين المناهضين للتّـقليد والمحافظة، المدافعين عن الحداثة وحريّة المرأة، مفادُه أنّ للدّيـن وأحكامِه وتشريعاته مسؤوليّـةً عن أوضاع الحيف في الحقوق التي تعانيها النّساء؛ إذْ هنّ، في منظومة التّـشريع الدّينيّ، دون الرّجال حقوقًا ماديّـةً ومعنويّـة؛ وهـنّ عند "رجال الدّين" موضوعَ رقابةٍ مشدَّدة - أقوالًا وأفعالًا وسَكـنات - في كلّ الأمصار والعصور.

في

ثمّ يُزاد على ذلك كلِّه، في رأي أكثرهم، بالقـول إنّـه إذا كانت هذه حال كلّ الأديان التّوحيديّـة، التي تجتمع على تشريع هذا الميْـز بين الجنسين، فإنّ درجة الوضْع من مكانة النّساء أعلى في التّشريع الإسلاميّ من أيّ تشريعٍ دينيّ آخر؛ وهو - في ما يعتـقدون - ما توحي به كلُّ مقارنة بين أوضاع المرأة في المجتمعات العربيّـة والإسلاميّـة ونظيراتها في المجتمعات الأخرى التي تديـن شعوبُها بأديان أخرى: توحيديّـة وغير توحيديّـة.

إنه صراعٌ بين ثقافة ذكوريّة شديدة الرّسوخ وثقافة اجتماعيّة متحرِّرة من النّزعة الذّكوريّة

يمكن الجدل في الفارق بين مراتب النّساء في هذا الدّين التّوحيديّ وذاك؛ كما يمكن التّدليل على أنّ دونيّـة المرأة في التّشريع الإسلاميّ ليست أَظْهَـر من غيرها في تشريعات الأديان الأخرى؛ لكنّ الذي لا يَـقْـبل الجدل هو أنّ أسباب تلك الدّونيّـة اجتماعيّـة، في المقام الأوّل، وليست دينيّـة وأنّها لا تبدو دينيّـة إلا لأنّ الذين يشرِّعـون في مجتمعات تلك الأديان، ويديرون الشّأن الدّينيّ ويتسلّطون عليه، يحملون في وعيهم ثقافةً ذكوريّـة تَضَع المرأةَ ذلك القـدْرَ الكبيرَ من الضَّـعَـة الذي هو ملحوظ للجميع.

على أنّ القول بتلازُمٍ بين دونيّـة المرأة ونصوص الأديان وتشريعاتها، أو بعدم التّلازم ذاك، مسألةٌ مندرجةٌ في باب النّزاع على تأويل النّـصّ؛ وهو النّزاع الذي كان - وسيظلّ - يوزِّعُ قَـرَأَةَ نصوص الدّين إلى مذاهبَ في الرّأي متـعـدّدة، ويوزّع النّاس إلى فريقـيْـن متـقابليْـن إزاء قضيّـة حقوق المرأة: فريق يُـقِـرّ بها ويُسَلّم ويلتمس تسويغًا لذلك في النّـصّ الدّينيّ، وفريق يَجْـحد حقوقها تلك ولا يعترف بشرعيّـتها متوسِّلًا في ذلك نصوصًا من الدّين متأوِّلًا إيّاها على هذا الوجه من الإجحاف. عند التّدقيق قـليلًا في هذا النّزاع على تأويل النّـصّ، لن يَعْـسُر علينا أن نلْحظ أنّه صراعٌ بين ثقافـتين أكثر ممّا هو صراعٌ بين نظرتين إلى الدّين (نظرة اجتهاديّـة ونظرة منغلقة): صراعٌ بين ثـقافة ذكوريّـة شديدة الرّسوخ وثـقافـةٍ اجتماعيّـة متحـرِّرة من النّـزعة الذّكوريّـة أو تميل إلى أن تكون كذلك.

الثقافة الذّكوريّة أقدم في التّاريخ من الأديان

ليستِ الأديان، ومنها الإسلام، هي التي تَـحِيفُ على حقوق المرأة وتَـضَـع منزلتَـها ضعةً دنيا في المراتبيّـة الاجتماعيّـة، كما يُـعْـتَـقَـد؛ ولا انسدادُ الأفـق أمام إمكانِ المصيرِ إلى مساواةٍ بين الجنسيْـن هو ممّا أفضى إليه التّـشريعُ الدّيـنيّ في هذا الدّيـن وفي ذاك، وإنّـما مَأْتى الدّونيّـة تلك من سلطانٍ ضاربٍ في مجتمعاتنا تمثّـلـه الثّـقـافـةُ الذّكـوريّـة المتأصّـلة في الذّهنـيّـة الجمْـعيّـة. إنّ هذه الثّـقافـة الذّكـوريّـة أقـدم في التّاريخ من الأديان، بل إنّ الفكـر الدّيـنيّ ليس أكثـر من تَـجَـلٍّ من تجليّـاتـها. والأنكى من ذلك أنّ سيطرة هذه الثّـقافة، التي تعيد إنتاج قِـيَـمها اليوم، لا تُـفْـصح عن نفسها في البيئات الدّيـنيّـة فـقـط، ولا في البيئات الاجتماعيّـة المحافظة فـقـط، بل حتّى في البيئات الاجتماعيّـة والثّـقافيّـة الحديثة والمتأثّـرة بمنظومة القيم الغربيّـة! على أنّ الأَطـمّ من هذه الطّامّـة هي مساهمة النّساء أنفسهـن في إعادة إنتاج هيمـنـة هذه القيم الثّـقافـيّـة الذّكـوريّـة من طريق التّربيّـة!!!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن