أدى التراجع اللافت في حركة الشحن عبر قناة السويس خلال الشهور الأخيرة، بنسبة بلغت نحو 70% بسبب هجمات الحوثيين على السفن العابرة عبر مضيق باب المندب، إلى انخفاض كبير في إيرادات القناة، بعد لجوء العديد من شركات الشحن العالمية، إلى طرق بديلة وآمنة حتى وإن كانت أكثر تكلفة، وهو ما رفع خسائر مصر إلى أرقام غير مسبوقة، بلغت حسبما قال رئيس الوزراء المصري مصطفي مدبولي، ما يُقدّر بنصف مليار دولار شهريًا، وسط توقعات بخسائر أخرى تتراوح ما بين خمسة إلى سبعة مليارات من الإيرادات السنوية للقناة هذا العام، وهي التى كانت قبل نحو عامين فقط، ترفد الخزانة العامة المصرية بنحو 12 مليار دولار سنويًا.
وتشير العديد من التقارير الدولية، إلى أنّ الانخفاض الكبير في حجم عبور سفن الشحن والناقلات العملاقة في قناة السويس، بلغ نحو 60% في أقل من خمسة أشهر على اندلاع الحرب في غزّة، وهو ما تسبب في تراجع إيرادات القناة بنسبة تجاوزت 46% بنهاية يناير الماضي، وهي نسبة تبدو منطقية للغاية، في ظل إعلان عدد من كبريات شركات الشحن حول العالم، إيقاف عبور السفن التابعة لها للبحر الأحمر، وإعادة توجيه هذه السفن حول رأس الرجاء الصالح، في خطوة تقول منصة PortWatch التابعة لصندوق النقد الدولي، إنها لعبت دورًا كبيرًا في انخفاض حجم تجارة الترانزيت حول العالم، مقابل ارتفاع حجم الشحن عن طريق رأس الرجاء الصالح إلى 66%، على ما يعنيه ذلك من ارتفاع كبير في تكاليف الشحن، وهو ما يؤشر حسب مراقبين إلى بوادر أزمة اقتصادية عالمية كبري، لن تتوقف آثارها على المرور من قناة السويس، لكنها سوف تطال العديد من الأنشطة التجارية الأخرى، وفي مقدمتها تصدير الأسمدة والمعادن ونقل الحاويات وتجارة الترانزيت من موانئ أخرى مثل سفاجا والسخنة وشرق بورسيعد.
يضيف قرار شركات الشحن الكبرى، بإعادة توجيه سفن الشحن بعيدًا عن البحر الأحمر، حسبما يقول كثير من خبراء النقل، أكثر من خمسة آلاف كيلومتر إلى الرحلة التجارية الواحدة بين آسيا وأوروبا، إلى جانب عشرة أيام إضافية لوصول البضائع إلى الموانئ الأوروبية، على نحو يمكن ترجمته اقتصاديًا بزيادة تتراوح ما بين مليون إلى مليوني دولار، ينفق معظمها على الوقود اللازم لإنجاز الرحلة خصوصًا لسفن الحاويات الكبيرة، وما قد تؤدي إليه تلك الخطوة من زيادات متتالية في أسعار الوقود على المستوى الدولي.
وتقدّر تقارير دولية، التكلفة الاقتصادية الإجمالية لاستمرار الحرب الدائرة في غزّة على مصر، بما يتراوح ما بين 5.6 مليار دولار، إلى 19.8 مليار دولار، حسب مدة استمرار الحرب، فضلًا عما قد تصل إليه الأمور في حال تصاعد تداعيات إقليمية أكثر عنفًا.
ويقول تقرير حديث صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إنّ جملة الانخفاض في إيرادات قناة السويس والسياحة في مصر، قد يصل إلى 13.7 مليار دولار، إذا ما اشتعلت حرب إقليمية، مشيرًا إلى أنّ التكلفة الاقتصادية للحرب، لن تتوقف عند مصر فحسب، وإنما سوف تطال دولًا عربية أخرى على رأسها لبنان والأردن.
نزيف الخسائر التي منيت بها قناة السويس خلال الشهور الملتهبة الماضية، كان دافعًا رئيسيًا لأن تعلن مصر، عن تمديد العمل بالتخفيضات المقدّمة لعدد من أنواع السفن والناقلات حتى نهاية العام الحالي، في خطوة عاجلة لمواجهة الأزمة، عبر تقديم مزيد من التسهيلات، لسفن بضائع الصب الجاف العاملة بين موانئ أستراليا وشمال غربي أوروبا، وسفن البضائع التي تعمل بين موانئ منطقة شرق الأمريكيتين، وموانئ آسيا، فضلًا عن سفن البضائع العاملة في الاتجاهين بين موانئ موريتانيا، وموانئ الخليج العربي والهند والشرق الأقصى، وتمديد العمل بتخفيض الرسوم، على ناقلات الغاز الطبيعي المُسال، التي شرعت في العبور اعتبارًا من مطلع يوليو/تموز الماضي، وكذلك ناقلات البترول.
لكن هل تكفي تلك التسهيلات لمواجهة الأزمة؟
لا يملك خبراء النقل واللوجستيات إجابة واضحة على هذا التساؤل، لكن الدكتور ممدوح سالمان، خبير لوجستيات النقل، ورئيس هيئة تنمية الصادرات المصرية سابقًا، يرى في دراسة حديثة له، أنّ العالم سوف يكون في مواجهة ثلاثة سيناريوهات، إذا ما استمرت التوترات الحاصلة في المنطقة على هذا النحو، ربما يكون أكثرها سوءًا على الإطلاق، هو أن يؤدي تصاعد حدة التوتر، مع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزّة، وامتدادها لتشمل مناطق أخرى، إلى توقف الإبحار عبر البحر الأحمر، لمدة زمنية قد تطول، وهو ما يعني أنه لم يعد هناك بديل، سوى توجيه الخطوط الملاحية في العالم سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح. على ما يعنيه ذلك من إضرار كبير بالتجارة، وسلاسل التوريد العالمية بل وأمن الطاقة أيضًا، وهو ما قد يدفع الولايات المتحدة وحلفاءها إلى توسيع القوة الأمنية البحرية متعددة الجنسيات التي تعمل في المنطقة، لتضم دولًا أخرى من أجل حماية حركة الملاحة في البحر الأحمر، ومن ثم قناة السويس، أو أن يؤدي تصاعد الأحداث الإقليمية، إلى استمرار ما يحدث من مناوشات، بين القوة البحرية متعددة الجنسيات "حارس الازدهار" وجماعة الحوثي، وهو السيناريو الذي يمكن أن يعمّق من أزمات المنطقة الاقتصادية كثيرًا، لأنه لن يحول دون إيقاف نزيف الخسائر، وتحوّل شركات الشحن الكبرى مضطرةً إلى الطرق البديلة، على ما يعنيه ذلك من مخاطر واسعة على حركة التجارة العالمية.
(خاص "عروبة 22")