التوقعات القائمة على قدم وساق بضربة تضطلع بها إيران، منفردة أو بالتنسيق مع القوى الإقليمية الموالية لها، رداً على اغتيال حلفاء كبار بحجم إسماعيل هنية وفؤاد شكر، جعلت الإسرائيليين يهرولون في أكثر من اتجاه، فنخبة الحكم وصناعة القرار تتحسس جهوزيتها الدفاعية والهجومية وتجري حساباتها بشأن كيفية الرد على الرد الإيراني شبه المؤكد.. وتستطلع حدود الدعم متعدد الأبعاد، الذي سيتكفل به محازبوها ورعاتها الخارجيون، خاصة الولايات المتحدة.
بالتوازي والتزامن مع هذا الحراك في رأس الدولة، يمكن معاينة سيناريو آخر تدور أحداثه في أحشاء المجتمع. ولعل أحد أبرز المشاهد يؤشر للعلاقة العضوية بين الإسرائيليين والملاجئ.
قوانين الدفاع المدني الإسرائيلية تنص على ضرورة احتواء جميع المنازل والمنشآت على ملاجئ معدة هندسياً لتوفير أقصى مستويات الحماية من هجمات القنابل والصواريخ. بهذا التوجه، قد لا تمثل إسرائيل حالة استثنائية مقارنة بكثير من الدول.. لكن الاستثناء يستشف هنا من الاهتمام الصارم بإجراء لا يبدو في الحالة الإسرائيلية روتينياً يمكن التغاضي عنه.. ذلك بسبب الأخطار التي لازمت الدولة منذ ميلادها بعملية قيصرية شاقة.
الملاجئ في إسرائيل جزء أصيل من إعداد البنية التحتية.. وتنقسم إلى غرف محصنة داخل الشقق السكنية، وأماكن ثانية محصنة للبنايات متعددة الطوابق والشقق، وأماكن محصنة ثالثة أكثر اتساعاً تنتشر في الميادين والشوارع وعلى جوانب الطرق. ويعني مفهوم التحصين هنا استخدام الخرسانات المسلحة والأبواب الفولاذية الضخمة، ووجود أنظمة لتخزين المواد الأساسية والتهوية والاتصال. إلى ذلك، هناك ما يعرف بملاجئ يوم القيامة المشيدة بمواصفات بالغة الخصوصية لاستقبال صفوة الحكم والإدارة السياسية والعسكرية، في أجواء الحرب الأشد خطورة المهددة لكيان الدولة.
والحق أن الإسرائيليين لم يكونوا بحاجة لاستشعار نذر الرد الإيراني وحيثياته المحتملة، كي يتذكروا ملاجئهم متعددة المواصفات، فالمفترض أنهم ألفوا مثل هذه الأجواء، حتى أمست تقليداً سارياً بينهم وعرفاً من أعراف حيواتهم.. ذلك إلى الدرجة التي تدعو أي عاقل للتساؤل عن معنى الحياة ذاتها لمواطني مجتمع يمتشقون السلاح يدهم على الزناد، وينامون بنصف عين، ومطلوب منهم المسارعة لأقرب ملجأ كلما سمعوا صافرات الإنذار التي يكاد دويها يمثل لحناً مشؤوماً معتاداً لديهم من المهد إلى اللحد؟!
في إطار حرب غزة لم يعد الإسرائيليون، لا سيما من سكان غلاف غزة وشمال البلاد يحصون عدد المرات التي تراكضوا فيها نحو الملاجئ.. غير أن البلاء الكبير المتوقع جراء التهديد الإيراني أدخل الإسرائيليين جميعهم في دائرة الخطر حتى إنهم أصيبوا بحمى تنظيف الملاجئ ورفع درجة استعدادها في مدن وقرى ونجوع، ظن سكانها أنهم بمأمن نسبي كبير مقارنة بما يعانيه أهل الغلاف والشمال. من أبرز دلائل هذه الحالة البائسة، تلقي رئيس الوزراء المتنمر نتانياهو وبطانته، النصيحة بممارسة مهامهم على مقربة من ملاجئ يوم القيامة.
ولنا أن نلحظ ما يشير إليه الباحث وديع عواودة من حيفا، وهو أن 70% من فلسطينيي الـ 48 في شمال إسرائيل وجنوبها والمدن المختلطة كالناصرة وحيفا ويافا، يفتقرون لكل أنواع الملاجئ ومحرومون من الكمامات الواقية وخدمات الطوارئ والإسعافات. هذا دون الاستطراد إلى توفر كافة الإجراءات والمستلزمات الاحترازية للمستوطنين اليهود في الضفة وغزة والجولان، واختفائها كلياً بين ظهراني السكان الأصليين. نحن هنا إزاء معلم بارز للتمييز وعدم المساواة.
يجيد الإسرائيليون صناعة الملاجئ ويولون عناية فائقة بتشييدها وفقاً لمعايير الأمن والسلامة في أوقات الحرب.. بيد أنهم ينسون أن دولتهم نشأت بقضها وقضيضها في الأصل، عن القناعة بأنها ملجأ أو ملاذ يقي يهود العالم من طوارئ الاضطهاد القائم أو المحتمل في كيانات الآخرين. وغض النظر عن تفاصيل هذه القناعة ومدى حجيتها التاريخية والحقوقية، فإنه يصعب عليهم في ضوء سياسة البحث عن الملاجئ داخل هذا الملجأ الكبير إنكار حقيقة الفشل الذي يحيط بهذا التصور.
ويتغافل الإسرائيليون عن واحدة من أمهات حقائق الاجتماع السياسي الإنساني، هي أن الإنصاف في التعامل مع حقوق الآخرين، الفلسطينيين أساساً في حالتهم، هو أكثر الملاجئ لجهة الحصانة وتحقيق غايات الأمن والسلامة والطمأنينة على الصعد الفردية والجماعية.
(البيان الإماراتية)