يركّز هذا المقال على ثلاثة أبعاد لقضايا الاحتقان القائم والمحتمل بين الأقليات منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣ بشكل عام، ومنذ اغتيال إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" بشكلٍ خاص.
البُعد الأول، هو البُعد السنّي/الشيعي، فلقد انفجر كمّ معتبَر من الشحن الطائفي بين الطرفين خلال الأيام القليلة الماضية، على خلفية الزعم بأنّ إيران لها يد في اغتيال هنيّة وأنّ دورها هذا يرتبط بالحقد الدفين لدى الشيعة ضد السُنّة.
وهنا لن أناقش كيف يمكن لإيران أن تتسبّب لنفسها في فضيحة عالمية بإظهار نفسها بمظهر الدولة العاجزة عن حماية ضيوفها؟.. ولا كيف يمكن لإيران أن تبدو بمظهر الدولة المهترئة بعد سلسلة الاختراقات الأمنية المتتالية التي تتعرّض لها منذ سنوات؟.. كما لن أناقش إذا كانت إيران تورّطت أيضًا في اغتيال فؤاد شكر القيادي العسكري الشيعي الكبير في "حزب الله" اللبناني قربانًا لتفاهمات بينها وبين أمريكا وإسرائيل، أم أنّ اغتيال هنيّة نقرة واغتيال شكر نقرة أخرى؟.
الدولة اليهودية لا تتوقّف عن التلاعب بورقة الأقليات
لن أناقش ذلك لأنه وإن كان من المهم عدم استبعاد أي احتمال عند التحليل، إلا أنه من المفترض وجود حد أدنى من المنطق. أما ما لفت انتباهي فهو كمّ الڤيديوهات لأشخاص من السُنّة يقدحون في الشيعة ويحرّضون عليهم، والشيء نفسه على المَيلة الأخرى، كما يقول الشوام، حتى أنني رأيت ڤيديو لشخص يتعهّد فيه بالقضاء على آخر مسلم سنّي، فما هي الحكاية بالضبط؟.
لا أحد ينكر أنه في داخل كل دين ومذهب يوجد أشخاص متطرّفون، وقد رأينا مؤخرًا هياج المتطرّفين الإنجليز ضد المهاجرين المسلمين بالذات على خلفية اغتيال ثلاث فتيات، رغم نفي المصادر الرسمية أنّ القاتل مهاجر مسلم.
إذن التطرّف الديني والمذهبي حقيقة موجودة داخل وطننا العربي وخارجه، لكن الشيء الغريب هو بناء سردية متهافتة لتفسير اغتيال إسماعيل هنيّة من أجل إشعال نيران الفتنة المذهبية. وهنا نرى أنّ هذا التقصّد للتحشيد الطائفي جاء بعد أن قامت إيران الشيعية والجماعات الموالية لها بدعم المقاومة الفلسطينية في الحرب الإسرائيلية المجنونة على أهل غزّة ما دفع قطاعًا عريضًا من الشارع العربي غير الشيعي لعبور الحاجز الطائفي الذي يفصل بين السنّة والشيعة، خاصةً أنه بالمقارنة كان موقف تركيا السنيّة شديد التواضع. ومن هنا بدا من المهم إعادة التذكير بخلفيات الصراع المذهبي وإسقاطه على واقعة اغتيال اسماعيل هنيّة، وهو إسقاط ليست إسرائيل بعيدة عنه، فالدولة اليهودية لا تتوقّف عن التلاعب بورقة الأقليات.
البُعد الثاني هو البُعد الفارسي/الآذري، ومعلوم أنّ هذا البُعد اكتسب حساسية خاصة منذ تزايد التعاون بين إسرائيل وأذربيچان من جهة، واحتقان العلاقات بين إيران وأذربيچان من جهة أخرى رغم محاولات الطرفين كبح جماح التوتّر. مثل هذه الخلفية سمحَت للبعض بإثارة علامة استفهام كبيرة حول سقوط مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على أثر لقاء مع نظيره الأذري إلهام علييف في شهر مايو/أيار الماضي من أجل افتتاح طريق يربط بين البلدين. ومثار الاستفهام هو ذلك الغموض الذي أحاط بسقوط مروحية الرئيس وحدها بدعوى سوء الأحوال الجوية دون الطائرتين المرافقتين لها، فضلًا عن التزام السلطات الإيرانية بالصمت التام حيال سير التحقيق رغم مرور نحو ثلاثة أشهر.
وعندما اغتيل إسماعيل هنيّة في طهران أثير استفهام آخر حول ما إذا كان الاغتيال قد حدث بسبب مقذوف أُطلق من جهة بحر قزوين الذي تطّل عليها إيران وأيضًا أذربيچان. ومثل هذا النوع من الأسئلة من شأنه تغذية الشكّ في العلاقة بين الجماعتين القوميّتين.
شرق أوسط جديد يتّجه لمزيد من التشظي والانقسام
نأتي للبُعد الثالث وهو البُعد العربي/الكردي والذي من المتوقّع أن يشهد تصعيدًا كبيرًا في المستقبل القريب. أولًا بسبب التقارب التركي-العراقي وانعكاساته على ملف نشاط حزب العمّال الكردستاني من الأراضي العراقية، إذ من المفهوم أن يكون هذا الملف حاضرًا في أي تفاهمات تركية-عراقية، قادمة. وعندما ننتقل إلى سوريا نجد أنّ الصراع بين سوريا/إيران والولايات المتحدّة/إسرائيل - بالذات منذ "طوفان الأقصى" - أخذ ينعكس بشكل متزايد على العلاقات العربية - الكردية المتوتّرة أصلًا، ومن المعلوم أنّ هجومًا بريًا واسع النطاق شنّته العشائر العربية المدعومة من سوريا وإيران على مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية شرقي محافظة دير الزور، وهو وضع واجهته الولايات المتحدّة بتعزيز وجودها العسكري.
الخلاصة أننا حين نتأمّل الصورة الكلية للشرق الأوسط الجديد الذي تُخاض من أجل استيلاده حرب شعواء على فلسطين وأهلها، يجب أن لا يفوتنا أنه شرق أوسط يتّجه لمزيد من التشظي والانقسام.
(خاص "عروبة 22")