انشغلت جهات متعددة بالمبادرات التي تناقش ترتيبات وقف الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع في السودان، وجرى الحديث عن منابر، جدة وجنيف والقاهرة وأديس أبابا وجيبوتي وكمبالا، وكأن كلا منها يحمل هدفا سياسيا مختلفا، بينما جميعها يرمي إلى إنهاء الصراع بين الطرفين، والتوصل إلى تسوية تخفف حدة المعاناة الإنسانية، وتفتح أفقا واعدا للمستقبل في السودان.
حظيت الدعوة الأمريكية لحضور الطرفين إلى جنيف (الأربعاء) لإجراء محادثات حول السبل اللازمة لوقف إطلاق النار بلغط كبير من قوى متباينة، فالمبعوث الأمريكي توم بيريلو لم يستطع إقناع وفد الحكومة السودانية برئاسة وزير المعادن محمد بشير أبونمو في اجتماعات عقدت في جدة السبت الماضي، بالإجابة عن السؤالين التاليين: لماذا الذهاب إلى جنيف وهناك تفاهمات تمت سابقا في جدة برعاية الولايات المتحدة والسعودية يمكن البناء عليها؟ وكيف قبلت واشنطن التفاوض مع وفد حكومي أكثر من مرة في جدة، بينما تصر على إيفاد وفد عسكري إلى جنيف؟
لم تقدم الإدارة الأمريكية إجابة شافية تقنع الحكومة بالذهاب إلى جنيف قبل يوم واحد من انطلاق الاجتماعات الرسمية، في حين أعلنت قوات الدعم السريع وصول وفدها إلى سويسرا يوم الثلاثاء، ولا أحد يدري مع من سيتفاوض هذا الوفد؟ وكيف سيتم الحديث عن وقف إطلاق النار وأحد الطرفين يغيب عن المناقشة؟ كأن الهدف هو الإيحاء بأن غياب وفد الحكومة ينطوي على هروب سياسي من المفاوضات وعدم رغبة في وقف اقتتال أوجد فوضى في كثير من الأقاليم السودانية، وبالتالي زيادة الانتقادات الموجهة إلى الجيش، وتحميله وحده مسئولية ما يجري في البلاد.
حظيت الأزمة في السودان باجتماعات مستفيضة في أماكن عدة، كشفت حصيلتها عن تقدم وتعثر وفجوات بحاجة إلى معالجة حكيمة، مع ذلك لا يزال خيال بعض القوى يتوقف عند المحطة التي سيتم التفاوض على أرضها، وليس القضايا التي تستحق مناقشتها لوقف الحرب، ما أدخل الكثير من السودانيين في دروب ومتاهات وتفاصيل لا يحتاجون إليها، لأن حاجتهم الأولى تتمركز في كيف يتم إنهاء الصراع، وهي النقطة التي تتجاهلها جهات مختلفة، وأدت إلى المأزق الراهن.
طغى الحديث عن المكان والزمان وانتماءات الشخصيات والقوى التي من حقها حضور الاجتماعات على العنصر المركزي في الأزمة وهو استمرار المعاناة التي تواجهها شريحة كبيرة من المواطنين داخل السودان وخارجه، ما يؤكد أن الإرادة السياسية غائبة عن ذهن من يريدون تسوية على مقاس مصالحهم المباشرة، وليس على مقاس الغالبية العظمى من السودانيين الذين يكابدون بسبب ويلات الحرب، ولا يجدون أملا في إمكان أن يكون الجلوس على طاولة مفاوضات في أى بلد مقدمة لعودة الهدوء المفقود، ما يجعل طيفا واسعا منهم يضطر للتأقلم مع المأساة.
تسعى فئة كبيرة من السودانيين إلى ممارسة تمارين سياسية معتادة والدولة على وشك أن تفقد هويتها بعد إصرار قوى منخرطة في الصراع على حسم المعركة عسكريا، ما يعني أن المحادثات والاجتماعات والمفاوضات في أى مدينة غير مجدية، وأن المشاركة في أي مرحلة منها نوع من استهلاك الوقت، ومحاولة لإيجاد واقع جديد يعمل لصالحها، ولم تستطع غالبية القوى المفتونة بممارسة الحرية أن تطبقها على نفسها، فالإقصاء والاستقطاب والانقسام والممانعة من العناوين الرائجة في السودان، ويمكن ملاحظة معالمها قبل وفي أثناء وبعد الحديث عن أي مبادرة ترمي لوقف الحرب.
يمر السودان بنوع خاص من صراع الإرادات وليس الخلاف حول طبيعة المنبر الذي يطل منه المتفاوضون، لأن اسم الطاولة أو مكانها لن يكون عنصرا حاسما، فلا توجد اجتماعات منتجة وكل المبادرات التي أطلقت، سواء كان أصحابها حسنى النية أم لا، لن يتمكنوا من فرض تسوية ما لم توافق الأطراف الرئيسية عليها. ولذلك فالعبرة ليست في عقد لقاء بين الجيش والدعم السريع في جدة أو جنيف، لكن العبرة في الجهة أو الجهات التي ترعى وقادرة على سد الثغرات، والتوصل إلى مخرجات يمكن تطبيقها. فكم من اتفاقيات تم توقيعها وانهارت قبل أن يجف حبرها؟
يبدو الانشغال بالمكان قفز على أزمة معقدة، أهم ما تحتاجه توافر الإرادة السياسية لدى أطرافها، الأمر الذي لم تتمكن الولايات المتحدة من توفيره، ولم تتحصل عليه ممن دعتهما إلى جنيف. ناهيك عن موقف المجتمع الدولي ومساواته بين القوتين بحجة التمسك بالحياد، وعدم ممارسة ضغوط كافية لحثهما على وقف الحرب فورا، ما أسهم في تكوين قناعة بأن واشنطن وجهت دعوتها للذهاب إلى جنيف بسبب دوافع تتعلق بالحفاظ على مصالحها الحيوية ومنع خصوم لها من الحصول على مكاسب لوجستية في البحر الأحمر من جهة شرق السودان، وليس سعيا خالصا لوقف الصراع في دولة يمكن أن تنتقل عدواها إلى الدول المجاورة.
تحركت واشنطن عندما شاهدت بعينيها روسيا وإيران يريدان تطوير العلاقات مع السودان، وسعت لتوصيل رسالة مفادها أنها حاضرة في المنطقة، وعلى استعداد للتدخل في أزمة مركبة، من دون أن تثبت حسن نواياها لوقف الحرب في السودان.
(الأهرام المصرية)