تعيش المنطقة منذ الثمانينات نزاعات مرتبطة مباشرة أو مداورة بإيران، بدءًا من توغلها المدروس بعناية في لبنان عبر البوابة السورية والبيئة الشيعية المحلية، إلى اختطافها القضية الفلسطينية من تحت أجنحة القومية العربية إلى جناحَي الإسلام السياسي واستخدامها كـ"حصان طروادة" لتحقيق مشروعها التوسعي في الإقليم، وصولًا إلى تدخلاتها في شؤون وشجون البيئات الشيعية في بعض الدول العربية لا سيما البحرين والكويت والسعودية واليمن.
يسعى نصرالله إلى منع امتداد النار إلى الداخل الإيراني
أحداث أمنية كثيرة شهدتها جميع هذه الدول على شكل عمليات إرهابية هدفها الترويع وزعزعة الاستقرار، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، تفجير مقرَّي قوات المارينر والقوات المتعددة الجنسية والسفارة الأميركية في بيروت عام 1983. وفي الثمانينات أيضًا، شارك عناصر من "حزب الله" في الكويت عناصر من حزب الدعوة في عدد من العمليات نذكر من بينها اختطاف الطائرة الكويتية في 1984 ومحاولة اغتيال أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد في العام 1985 وتفجير المقاهي الشعبية التي راح ضحيتها عدد من الشهداء المدنيين وعدد من الجرحى الكويتيين. وعام 1995، تم تفجير أبراج الخبر في استهداف للقوات الجوية الأميركية، وحمّلت الولايات المتحدة مسؤولية الهجوم لـ"حزب الله" الحجاز ودانت محكمة أميركية إيران و"حزب الله" في الهجوم.
أما في البحرين، فتُوّجت التدخلات الإيرانية في احتجاجات 2011 التي اندلعت بحجة التمييز المؤسسي تجاه المسلمين الشيعة، ووُجهت تهم محاولة قلب النظام للمحتجين وانتهت الانتفاضة بدخول قوات "درع الجزيرة" إلى البحرين. بالنسبة لليمن، لا تخفى يد إيران الطولى في دعمها للمتمرّدين الحوثيين، هي التي جاهرت بسيطرتها عبر وكلاء محليين على أربعة عواصم عربية بعد أن ضمّت صنعاء إلى بيروت ودمشق وبغداد.
سلسلة التدخلات هذه إن عبّرت عن شيء فعن جوهر السياسة الخارجية الإيرانية المستندة إلى مبدأ خوض حروبها خارج أراضيها عبر وكلاء وميليشيات موالية لها. إنّ تحييد السيد نصر الله إيران عن الحرب التي تقودها جبهة الممانعة ضد إسرائيل يصب في صميم هذه السياسة، إذ يسعى إلى منع امتداد النار إلى الداخل الإيراني. فهل ينجح مسعاه هذا، وهل ما زالت سياسة خوض الحروب بالوكالة الإيرانية ناجعة وتحصّن إيران من وصول النزاعات إليها؟.
تخَفّي إيران وراء الوكلاء في المنطقة لم يعد صالحًا للإستعمال
الإجابة الأولية تكمن في مراجعة مسلسل العمليات التي استهدفت الداخل الإيراني على مدى السنوات الماضية، من عمليات اغتيال كبار العلماء الإيرانيين أو مسؤولين سياسيين وأمنيين، وتفجير وتخريب مرافق حيوية وسرقة الأرشيف النووي، وآخرها قصف الرادارات قرب أصفهان واغتيال اسماعيل هنية من دون احتساب قصف مواقع الحرس الثوري و"حزب الله" في سوريا. الحصيلة: ارتداد صراعات المنطقة على إيران ووصول نيرانها إليها.
التغير الذي طرأ وأدى إلى مهاجمة إيران مباشرةً هو أنّ تخفيها وراء الحلفاء والوكلاء والأدوات في المنطقة انكشف ولم يعد صالحًا للإستعمال، خصوصًا بعد حرب غزّة وتداعياتها. بدأ التغاضي الغربي بعامة والأميركي بخاصة عن دور إيران وراء أعمال وكلائها يتهاوى، وبدأت أصابع الاتهام تتجه مباشرةً إلى طهران سواء من ألمانيا وبريطانيا أو حتى فرنسا وإيطاليا، ليشمل الديمقراطيين في أميركا. حتى قبل حرب غزّة وعلى الرغم من كل الأهوال التي شهدتها المنطقة وكانت بصمات إيران واضحة عليها، كان الديمقراطيون يقولون باحتواء إيران ويتعاملون مع مختلف النزاعات التي تعصف بالإقليم وكأنها نزاعات منفصلة لا نزاعًا واحدًا ذا أوجه متعددة تحركه يد واحدة هي يد "ولاية الفقيه".
الجامع المشترك بين إيران وإسرائيل هو عدم حل القضية الفلسطينية كلٌّ لأسبابه الوجودية
المتغيّر الثاني هو إدراك أميركا وإسرائيل بعد عملية 7 أكتوبر أنّ الأهداف الإيرانية منها تتجاوز القضية الفلسطينية لتطال خريطة الأوضاع في الإقليم والتي كانت تتجه إلى عقد تحالفات استراتيجية وسياسية واقتصادية معها لا تصب في صالح طهران لأنها تحالفات تسعى إلى تدعيم الأمن الإقليمي وتجفيف النزاعات. فالنظام الإيراني يعتاش على بؤر التوتر التي يخلقها. وعلى الرغم من أنّ الجامع المشترك بين إيران وإسرائيل هو عدم حل القضية الفلسطينية كلٌّ لأسبابه الوجودية، بدا جنون الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الحالية وكأنه يحاكي الجنون والانفلات الإيراني، وها هي تسعى على الرغم من كل الضغوطات الأميركية والغربية إلى نقل معركة غزّة من الإطار الفلسطيني البحت إلى إيران باعتبارها المحرّض والمموّل والمنظّم ليس فقط لعملية 7 أكتوبر بل لكل عمليات أذرعها ضد إسرائيل، إضافة إلى رغبتها الأكيدة في تقويض المشروع النووي وإضعاف دور وكلائها وأدواتها لا سيما في لبنان وسوريا والعراق.
إسرائيل التي ارتكبت المجازر المروّعة في غزّة في سياق حربها مع المحور الإيراني، باتت مدركة أنّ إيران تسعى لاستنزافها لقناعة لديها بأنّ إسرائيل بدأت تتهاوى ونهايتها وشيكة وحتمية ومسألة وقت لا أكثر.
الدور الأميركي في صلب هذه المعادلة ما يزال يعتمد سياسة الاحتواء والدبلوماسية طالما الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض، ويصعب التكهن بشأن السياسة التي قد ينتهجها الجمهوريون حيال إيران في حال وصولهم إليه. فعلى الرغم من عدم رضا الجمهوريين عن سياسة احتوء إيران، فهُم بعامة ومرشحهم دونالد ترامب بخاصة، لا يرغبون بخوض حرب جديدة، ما يرجح اعتمادهم سياسة أكثر تشددًا تجاه إيران لا تصل إلى حرب مباشرة معها تفاديًا لتداعياتها الخطيرة على استقرار المنطقة من القوقاز وحتى المتوسط، جراء تشظي النظام الإيراني وتفكك الجمهورية الإسلامية دون وجود بدائل مناسبة. كل ذلك لا يحجب مشهد عرض القوة الذي تمارسه واشنطن في المتوسط حيث استقدمت أكبر مدمراتها وغواصاتها وحاملات طائرتها. هو عرض للقوة فحسب بل إنّ واشنطن لن تتردد في استخدامها إذا بلغ التفلت الإيراني حدًا يهدد فعليًا إسرائيل ومصالحها في المنطقة، وطهران كما "حزب الله" يدركان ذلك.
بالنسبة إلى مطلب نصر الله تحييد سوريا، فهو أقل تعقيدًا من الشأن الإيراني. فسوريا أولًا غير موجودة كدولة ومنقسمة بين ما يُسمى سوريا النظام، وهي في الواقع تحت السيطرة الإيرانية والروسية، وسوريا التي تسيطر عليها تركيا وتلك الواقعة في الشرق تحت سيطرة الأكراد والقوات الأميركية، وسوريا الجنوب. هذا دون احتساب أنّ إسرائيل لا تترك مناسبة صغيرة أو كبيرة لقصف مواقع الميليشيات الإيرانية والحرس الثوري او قوات النظام.
مشاركة سوريا في الحرب قد يطيح بنظامها الهش أصلًا وهذا ترفضه روسيا وإيران
ولا بد ثانيًا من مراعاة العلاقات الروسية-الإسرائيلية وفيها الكثير من الخصوصية، والعلاقات الإيرانية-الروسية المستجدة. سوريا لا تستطيع كسوريا التدخل في الحرب، لكن أي استخدام لأراضيها فيها قد يشكل إحراجًا لروسيا التي بقيت حتى الآن رمادية في حرب غزّة، وهذا ما لا تريده لا إسرائيل ولا إيران. إضافة إلى أنّ أي رد إسرائيلي على أي مشاركة لسوريا في الحرب قد يطيح بنظامها الهش أصلًا وهذا أيضًا ترفضه روسيا وإيران.
الرد أو التهديد بالرد قد يجر المنطقة إلى الحرب الممنوعة، لكن الضوابط الدولية ما زالت حتى الآن أقوى من المتطرفين في إيران أو إسرائيل بخاصة بنيامين نتنياهو وزمرته المجنونة والمتهورة، ويبدو أنّ الأساطيل الموجودة في البحار من الخليج إلى المتوسط هي مزيج القوة الناعمة والديبلوماسية والقوة الخشنة وهو ما يميّز سياسة الإدارة في واشنطن لمنع الحرب وردع الطرفين أكثر من الانخراط فيها والدفاع عن إسرائيل كما يعتقد الكثيرون.
(خاص "عروبة 22")