بصمات

الرحلة في طلب العلم.. عولمة عربية قبل العولمة

في وقت كانت العربية لغة العلم، والثقافة عربية الهوى، خلقت الرحلة في طلب العلم عولمة قبل ما نعرفه من عولمة معاصرة، فكان من المشاهد الاعتيادية أن ترى طلبة علم يجوبون عوالم لا تتحدث إلا العربية بين الأندلس غربًا والهند ووسط آسيا شرقًا، يبحثون عن عالم ذائع الصيت يدرسون عليه، أو يشدون الرحال إلى مكتبة شهيرة بسعة كتبها للنهل من كنوزها، لتشكل الرحلة في طلب العلم العمود الفقري لمجتمعات أصبحت عملتها الرائجة هي التبادل الثقافي، بصورة كانت الأكبر في التاريخ البشري قبل العصر الحديث.

الرحلة في طلب العلم.. عولمة عربية قبل العولمة

خلق طلب العلم حالة من الرحلة للاستماع لشيوخ وعلماء في مدن شعارها المعرفة، كان من الطبيعي أن ترى الشاب يودع أهله، ثم يتحرك من بلاد الأندلس أو المغرب، ثم يزور مصر والحجاز وصولًا إلى العراق والمشرق. النماذج أكثر من أن تحصى وكُتب التراجم وعلم الرجال والطبقات وغيرها من الكُتب المعنية بتراجم العلماء من مختلف التخصصات مشحونة بمئات الرحلات التي تصل إلى الآلاف التي تحكي هذه الحالة من العولمة العربية، نموذج الشافعي حاضر هنا، فهو القرشي المولود في غزّة، والذي طلب العلم في العراق والحجاز واليمن، قبل أن يستقر في مصر ومنها ينتشر علمه.

ارتكزت هذه الظاهرة تاريخيًا على عامل طلب العلم بين مجموعات المسلمين في الأقطار الطرفية، الذين طلبوا علوم الإسلام في قلب عالمه، أي الحجاز والعراق بشكل أساسي، لذا شكلت الرحلة في طلب العلم غربلة غير مسبوقة للأفكار والأجناس بين محيط جغرافي اتصل لأول مرّة بهذا الشكل في تاريخ البشرية المسجل.

حالة من التبادل الحر للأفكار في مساحة جغرافية هائلة شهدت تنوعًا عرقيًا لم يوحّده إلا اللغة العربية

لقد خلقت هذه الحركة وحدة علمية على مستوى المدارس الفكرية التي نشأت داخل مجتمعات المسلمين، فلا غرابة مثلًا أن تجد مذهب الظاهرية لمؤسسه داود الظاهري في العراق يتبناه ويرعاه ابن حزم الأندلسي، أو نجد طلبة العلم يحجون من خراسان والمشرق إلى مصر للتعلم على يد تلامذة الإمام الشافعي في الفسطاط (العاصمة الإسلامية الأولى لمصر)، ونقل عن أبي العلاء المعري قوله: "والذي أقدمني تلك البلاد (أي بغداد) مكان دار الكتب بها"، كنموذج لطلب العلم في المكتبات.

الرحلة في طلب العلم هي التي تكشف لنا عن سر وجود قبر مفسر كبير مثل القرطبي في مدينة المنيا بصعيد مصر، وهو العالم الأندلسي الذي وجد مستقره في هذه المدينة المصرية، كنموذج حي لهذه الروح التي سرت في مجتمعاتنا وقتذاك، وهو ليس إلا أحد النماذج التي يمكن أن نضرب مثلها الكثير، ففي جبانات العاصمة المصرية، دفن المسعودي المؤرخ والجغرافي والرحالة المولد في العراق، وكذلك مؤرخ حلب ابن العديم، وفيها أيضًا دُفن العالم ابن الهيثم البصري وابن النفيس الدمشقي، بينما دُفن الحافظ السخاوي ابن مدينة سخا بدلتا مصر في بلاد الحرمين.

هل يمكن وصف هذه التجربة بالعولمة؟.. بلا شك نعم، وذلك في إطار فهمنا لسياقها التاريخي وحجم الشبكة التي ربطت بين أقطار مختلفة في أنحاء العالم الإسلامي وقتذاك، فقد خلقت الرحلة في طلب العلم حالة من المشاركة الإنسانية والتبادل الحر للأفكار وخلق مجالات تأثير وتأثّر بين مختلف المشاركين فيها في مساحة جغرافية هائلة شهدت تنوعًا عرقيًا لم يوحّده إلا اللغة العربية التي أصبحت وسيط التواصل، خصوصًا أنّ هذه الحالة دُعمت بعولمة اقتصادية تجلت في شبكات تجارية تربط بين العالم الإسلامي والصين وأوروبا.

ماذا يمكن أن نستفيد من درس التاريخ في حياة العرب المعاصرة؟

استعادة التاريخ هنا يجب ألا تكون مجرد مسكنات حضارية، أي القول إنه كان لنا السبق يومًا وفقط، فهذا حديث الركود الحضاري، فالتذكير بدرس التاريخ هنا مهم في سياق النظرة إلى المستقبل، فمع ثورة التكنولوجيا والتواصل والانفتاح على مختلف الثقافات بصورة غير مسبوقة في حاضرنا المعاش، نحتاج إلى استعادة روح الرحلة في طلب العلم، التي تعني القابلية للتعلّم والرغبة في البحث عن المعرفة أين كانت وبلا موانع مخترعة.

ما ينقصنا الآن هو أن يصبح شغف العلم قضية عامة

لا تزال مجتمعاتنا العربية بعيدة عن تلك الروح، مع التسليم بوجود قطاعات منها تواصل نهم المعرفة، وإن كانت لا تزال مهمشة لم تخلق تيارها الجارف بعد. المطلوب منا جميعًا الآن أن نستعيد أحسن ما في تراثنا، روح التجربة وتعميمها ونشرها في المدارس والجامعات والنقاشات العامة، فما ينقصنا الآن هو أن يصبح شغف العلم قضية عامة في زمن بات العلم والمعرفة هما رأس المال الحقيقي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن