"في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2022 خرج إبني مالك السليمي مع أصدقائه على متن دراجاته النارية ولكن اعترض أعوان البوليس طريقهم فحاول الهرب منهم لأنهم اعتادوا أن يطلبوا منه النقود مقابل عدم تحرير ضبط بسبب عدم خلاص تأمين الدراجة النارية.. حاول مالك تسلق جدار قريب للفرار من قبضة البوليس لأنه لم يكن يملك المال ليقدمه لهم، حينها قام الأعوان بشدّه من ساقيه والاعتداء عليه ودفعه ليسقط في خندق ويتوفى بعد 50 يومًا من الإقامة بالمستشفى متأثرًا بإصابته. ومنذ ذلك اليوم ونحن نحاول مقاضاة قتلة ابننا دون جدوى".
بكثير من القهر والإحساس بالعجز تحدّث والد مالك السليمي عن وفاة ابنه على يد عناصر الأمن في تونس وهو في الـ24 من عمره، ولكنه غير قادر على مقاضاة الجناة رغم توفر الشهود. وهذا الأمر ليس بالغريب في تونس التي تراوح القضايا التي يكون في فيها أعوان الأمن الجناة مكانها ولا تتم محاسبتهم.
وفي 12 يوليو/تموز الماضي أصدر القضاء التونسي حكمًا بسنة سجن مع تأجيل التنفيذ ضد أعوان الأمن المتهمين في قضية عمر العبيدي، الشاب التي قتله الأمن خلال مقابلة كرة قدم وتحولت لأحد أبرز القضايا في تونس وحتى خارجها. علمًا أنه في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، أصدر القضاء حكمًا ابتدائيًا بالسجن عامين اثنين ضد 12 من أعوان أمن متهمين في القضية، بتهمة القتل غير العمد.
وقد أثارت هذه الأحكام صدمة كبيرة لدى الرأي العام في تونس ولكنها أثبتت مجددًا أنّ كل القضايا التي تُرفع بسبب العنف البوليسي هي قضايا خاسرة وأنّ تحقيق العدالة فيها أمر لا سبيل إليه. واستمرار هذا الواقع يعود لعدم سعي سلطات الإشراف وعلى رأسهم وزارة الداخلية للحد من انتهاكات عناصرها واستمرارها في التغطية على تجاوزاتهم مهما كانت خطورتها لتكمل وزارة العدل المهمة بتعاطيها القضائي مع الملف الذي يكون غالبًا لصالح الجناة. وهذا ما حدث مع قضية عمر العبيدي منذ البداية، فعوض توجهها لفتح تحقيق في الحادثة التي هزّت البلاد حينها وما زالت، سارعت وزارة الداخلية لنفي حصول مطاردة خارج ملعب كرة القدم. وبعدها مباشرة خرجت النيابة العمومية لتنفي وجود آثار عنف على جثة العبيدي رغم أنّ تسجيلات كاميرات المراقبة وتقرير الطبي الشرعي أثبتا العكس. كما تحدّث محامو العبيدي عن هرسلة الشهود الذين تم الزج ببعضهم في السجن بتهم كيدية في حين غادر البعض الآخر بطريقة غير نظامية خارج البلاد هربًا من الضغط المسلط عليهم.
وكانت هذه الحادثة قد جرت قبل ست سنوات على إثر مناوشات بين مجموعات ألتراس أحد فرق كرة القدم وعناصر الأمن التي استعملت الغاز المسيل للدموع، ما دفع المشجعين إلى الهرب من المدارج، وكان عمر من بين الذين لاحقتهم قوات الأمن خارج الملعب حتى حدود وادي يبعد حوالى كيلومترين عن الملعب. ألقى بعض المشجعين أنفسهم في الماء للنجاة من الأمن في حين توقف عمر العبيدي وأعلم أعوان الأمن الذي يطاردونه بأنه لا يتقن السباحة. حينها اعتدى أحدهم عليه بالضرب ثم دفعه إلى الوادي قائلًا "تعلّم عوم" (تعلّم اسبح). وفي اليوم التالي عُثر على جثة عمر العبيدي الغارقة في الماء الملوّث والوحل. ومنذ ذلك الحين انتشرت عبارة "تعلّم عوم" كشعار احتجاجي ضد ممارسات الأمنيين ضد أبناء الشعب التونسي والتي تبقى غالبًا بلا محاسبة.
قضية عمر العبيدي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة التي يذهب فيها مواطن تونسي ضحية عنف أو إهمال البوليس، لكنها وعلى مدار ست سنوات شكلت نموذجًا لكيفية التعاطي القضائي مع القضايا التي يكون فيها الجناة من عناصر أمن وكيف يتم إفلاتهم من العقاب بكل سلاسة دون أي اعتبار لكل قرائن الإدانة.
عضو المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب نجلاء الطالبي، قالت لـ"عروبة 22": "تم رصد أكثر من 900 حالة تعذيب وسوء معاملة في تونس منذ عام 2013 حتى 2023 أي بين 120 و 150 حالة سنويًا، وتحصل جميعها إما في الشارع أو في سيارات الأمن أو مراكز الاحتفاظ، أو داخل السجون. ويواجه الضحايا في تونس صعوبات كبيرة للحصول على حقوقهم أو إنصافهم، إذ يصعب مثلًا الوصول إلى الوثائق الطبية التي تُعتبر حجر الأساس في أي ملف ينظر فيه القضاء لأنها مهمة في إثبات الاعتداءات. كما أنّ ضحايا التعذيب أو عائلات الضحايا يجدون أنفسهم إزاء مسار قضائي طويل جدًا يستمر لسنوات وفي الأخير لا تتحقق العدالة التي ينشدونها بل ويتحولون إلى متهمين وتُوجه لهم تهم كيدية وتسلط عليهم أحكام قد تصل إلى السجن".
وأضافت الطالبي: "اللافت في الأمر أنّ قضايا الضحايا غالبًا ما تبقى على الرفوف في حين يتم تسريع النظر في الشكاوى التي يتقدّم بها أعوان الأمن ضد الضحايا على أساس تعطيل موظف عمومي عن القيام بمهامه. وهذا التعاطي القضائي مع هذه الملفات يشجع الجناة على ارتكاب المزيد من الجرائم ولعل هذا ما يبرر ارتفاع هذه الانتهاكات".
(خاص "عروبة 22")