اقتصاد ومال

دولة الرعاية.. عبء اقتصادي أم ضرورة اجتماعية؟ (2/2)

معلوم أنّ بعض الدول العربية سعت إلى توطيد السلم الاجتماعي وتدبير المطالب الاجتماعية عبر تعليق عدد من الإصلاحات المالية ذات الطابع التقشفي، وتمديد العمل بأنظمة دعم الأسعار ومجانية الخدمات الاجتماعية وِفق المقاربات المعهودة، وهو توجه فاقم العبء المالي والعجز الموازناتي؛ الأمر الذي اختارت دول عربية أخرى تجنبه عبر تبني استراتيجيات تُقدّم حدًّا أدنى من الحماية الاجتماعية دون الاخلال بالتوازنات المالية الكبرى للدولة، عبر نهج الاستهداف المباشر والبحث عن مصادر تمويل مبتكرة ومستدامة.

دولة الرعاية.. عبء اقتصادي أم ضرورة اجتماعية؟ (2/2)

في هذا السياق، نورد أنموذج المملكة المغربية، التي شهدت بدورها خلال ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي، اضطرابات اجتماعية عنيفة، أُجبرت الحكومة آنذاك على تعليق توجهاتها الليبيرالية - التقشفية في المجال الاجتماعي في ظل سياق صعب، اتسم بتعاظم تكاليف حرب الصحراء وتوالي سنوات الجفاف، واضطراب أسعار المحروقات وتراجع أسعار الفوسفات.

لقد فرض هذا الوضع على المملكة اللجوء إلى المؤسّسات المالية الدولية التي أجبرتها على تبني خطة إصلاحية عُرفت بـ"التقويم الهيكلي"، تقوم على إعادة تعريف شامل لأدوار الدولة، وحصرها في الأدوار الاستراتيجية الكبرى (التخطيط ــ المواكبة ــ المراقبة ــ التشريع ــ القضاء .. )، ومنح القطاع الخاص الأجنبي والوطني مساحات أكبر على المستوى الاقتصادي عبر الخصخصة والتحرير، وتقليص الحضور على المستوى الاجتماعي عبر تفكيك منظومة دعم الأسعار وتحريرها والخصخصة الجزئية لقطاعي الصحة والتعليم، أو على الأقل خلق نظام صحي وتعليمي خاص موازي للمنظومة الحكومية، وهي خطة تم تنزيلها بشكل تدريجي وحذر على امتداد أربعة عقود، تحسبًا للآثار الاجتماعية التي قد تخلفها.

شكوك ومخاوف ترتبط أساسًا بقدرة الحكومة على ضمان استدامة تمويل البرامج الاجتماعية 

عملت المملكة المغربية على ملاءمة تنزيل مختلف توجيهات برنامج التقويم الهيكلي وِفق خصوصية كل مرحلة، فعلى سبيل المثال، لم تقم الحكومة بتفكيك منظومة الدعم بشكل مباشر، بل سعت إلى التدرج في ذلك؛ حيث كانت نقطة ارتكاز المنظومة في "صندوق المقاصة" الخاص بدعم أسعار عدد من المواد الاستهلاكية الأساسية، وأنظمة الدعم الخاصة بالولوج إلى السكن والتعليم والصحة واستهلاك الماء والكهرباء والأعلاف الحيوانية وغيرها.

خضعت هذه السياسية لعملية تفكيك تدريجي عبر تحرير أسعار عدد من المواد الأساسية، خاصّة المحروقات، على مراحل متباعدة، إلى جانب اعتماد النهج نفسه بخصوص أنظمة دعم التعليم والصحة والأرامل، وهو ما مكن من توفير هوامش مالية مُهمة وظفت لتمويل منظومة الحماية الاجتماعية الجديدة القائمة على الاستهداف المباشر عوض الاستهداف العام.

وصفة جديدة: مخاطر وآثار جانبية

تقوم فلسفة المنظومة الجديدة على تجميع برامج الدعم في برنامج واحد، يستهدف بشكل مباشر ودقيق الأسر المعوزة والفقيرة عبر دعم مالي يتراوح في حده الأدنى بين خمسين ومئة دولار، بُغية تعزيز قدرتها الشرائية لمواجهة نفقات التغذية والتعليم، مع الإشارة إلى أنّ التعليم بمختلف مستوياته ظل مجانيًا إلى حدود الساعة؛ وبخصوص الرعاية الصحية، فلقد تمّ إحداث نظام حماية اجتماعية ورعاية صحية إجباري يساهم فيه كل المغاربة عبر اشتراكات شهرية، تمكنهم من الولوج إلى الخدمات الاستشفائية في القطاعين العام والخاص دون تمييز، وهي الاشتراكات التي التزمت الحكومة بأدائها لفائدة الشرائح الفقيرة، التي أضحت تستفيد إلى جانب الدعم المالي المباشر من تعويضات عائلية عن الأطفال وكذلك من دعم إضافي لاقتناء السكن تتراوح قيمته بين 7 ألاف وعشرة آلاف دولار، متاح للطبقة الوسطى أيضًا.

من أجل تنزيل أمثل للتوجهات الاجتماعية الجديدة للدولة المغربية، لم تقتصر الحكومة على التجميع والاستهداف، بل عمدت إلى استحداث آلياتٍ للمساعدة على تحقيق أهداف هذه الاستراتيجية، كالسجل الاجتماعي الموحّد الذي يتضمن قاعدة بيانات ومعطيات ضخمة للأشخاص الراغبين في الاستفادة من الدعم الحكومي، وهو ما مَكَّن إلى حدود الساعة من التحقق من وضعية ملايين المرشحين، واستهداف دقيق للأشخاص الذين تتوفر فيهم شروط الاستفادة.

الخطوط العريضة لهذه الاستراتيجية تبدو واعدة جدًا، كما أنّ تحقيق الغايات والأهداف التي وضعت لها سيشكل نقلة نوعية على مستوى تدبير الشأن الاجتماعي بالمغرب، ويقترب به أكثر فأكثر من مفاهيم دولة الرعاية؛ غير أنّ الظاهر يوحي لنا أنّه بقدر ما تبدو عليه هذه السياسة الحكومية من تناسق ومتانة، إلّا أنّ ضمانات تنزيلها لا تزال مشوبة بعددٍ كبير من الشكوك والمخاوف، ترتبط أساسًا بقدرة الحكومة على ضمان استدامة تمويل البرامج الاجتماعية في ظل استمرار عجز الموازنة وتعثر الإصلاحات الجبائية، وارتفاع نسب الفقر وتعاظم عدد الأشخاص الراغبين في الاستفادة من الدعم، وهي مخاوف تعززها مخاطر إفلاس صناديق المعاشات وأنظمة الرعاية الصحية، وهو ما قد يُهدد بقاء واستمرار عمل منظومة الحماية الاجتماعية ويبطئ سرعة الانتقال نحو دولة الرعاية والرفاه التي سبق وأن تعهدت الحكومة المغربية بإرساء قواعدها.

التجربة المغربية قد تسهم في وضع أسُس منظومة اجتماعية فعالة وقد تساعد على بناء أنموذج عربي لدولة الرعاية

اختيار الأنموذج القائم على الاستهداف عوض الدعم العام، بقدر ما قد يُخفف العبء المالي عن الموازنة العامة، فإنّه قد يُسهم في تقليص القدرة الشرائية، خاصة لدى الطبقة الوسطى، المنهكة بتعاقب الأزمات الاقتصادية، وقد يدفع بعدد كبير من أفرادها إلى الطبقات الدُنيا، وهو ما يعني مضاعفة الضغط على منظومة الدعم والحماية الاجتماعية، وتقليص الطلب الداخلي الذي قد يؤثر سلبًا على أداء المقاولات ويفاقم مشاكل البطالة ويهدد السلم الاجتماعي الهش.

عمومًا، وعلى الرغم مما أسلفنا ذكره بخصوص المخاوف المرتقبة والمخاطر المحدقة بالتجربة المغربية، إلّا أنّها تجربة جديرة بالتتبع والتقييم، قد تسهم في وضع أسُس منظومة اجتماعية فعالة إذا تم قراءتها على ضوء بعض التجارب العربية الأخرى، التي لا تزال بدورها قيد التنزيل، كما أنّها قد تساعد على بناء أنموذج عربي لدولة الرعاية يستحضر الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمنطقة، ويكون أداةً لتحقيق أهداف التنمية وإقرار سلم اجتماعي مستدام.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن