بصرف النظر عمن كتب في هذا النوع من قلق الإنسان على مستوى الجماعة البشرية المتطوّرة، شرقًا وغربًا.. يظلّ الأمر في خصوصيّتنا العربية والإسلامية، يتجاذبنا قلق حضاري متعدد الوجوه، ولو أنه هو ذاته الذي يتقلب بنا في عدة جوانب متأزمة، أبرزها على الأقل - في تصوّرنا - أربعة رئيسية: اللغة، والمعرفة، والدين، والمجتمع.
القلق اللغوي، يعترينا بسبب تطور الحياة المعاصرة وتقدّمها العلمي والتكنولوجي، وبعض مظاهر تخلّف اللغة العربية في استيعاب المصطلحات والمفاهيم العلمية والتقنية المتطورة، وأيضًا تحديات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والحوسبة المتقدّمة.
وتُعتبر اللغة العربية حتى الآن ذات مكانة محترمة دوليًا، فهي مصنّفة ضمن لغات المستوى الثاني (عالية المركزية)، كالإسبانية والفرنسية، وأقل من الإنجليزية، ذات المستوى الأول (فائقة المركزية).
قلقنا اللغوي ناجمٌ عن حالة التأخر للغتنا الحضارية العظيمة مقارنةً بلغات العلم والمعرفة والتقدّم
يُحسب في ذلك مدى انتشار اللغة بين مستخدميها والمتحدثين بها كلغة ثانية، ومدى ارتباطها بمجتمع الشبكة العالمية للمعلومات.
لكن قلقنا اللغوي ناجمٌ عن ما نشهده من حالة التأخر للغتنا الحضارية العظيمة مقارنةً بلغات العلم والمعرفة والتقدّم، فائقة الاستخدام؛ رغم الإمكانيات الهائلة للغتنا ومركزها الرابع انتشارًا في العالم. بالإضافة إلى بعض مظاهر سوء استعمالها العام، وعدم الحفاظ على مكانتها الراقية لدى عموم الناس، كلغة تعني الهوية والأصالة الحضارية الراسخة.
الوضع المقلق للغتنا - دون اتخاذ خطوات فاعلة بقوة لصونها وتطويرها - يُقلص أو ربما يفقدها قوتها الناعمة، وقد تصبح في طريقها إلى الانقراض، مثل لغات أخرى ضعيفة. حيث تنقرض اللغات غير القادرة على الصمود واستيعاب تطورات الحياة شيئًا فشيئًا.
تشير الإحصائيات في هذا الشأن، بحسب بعض الدراسات، إلى حوالى 600 لغة في طريقها إلى الانقراض، بواقع لغة واحدة كل أسبوعين تقريبًا، من مجموع لغات العالم (أكثر من 5000 لغة).
ورغم أنّ اللغة العربية بعيدة حتى الآن عن خطر الاندثار الذي يُداهم غيرها، إلا أنه يجب العمل على حمايتها وإدراجها في الاستخدام العالمي بقوة، بشتى الوسائل الممكنة، في مشاريع قومية جادة، مثل رقمنة الثقافة العربية، وتعريب العلوم والمعارف الأجنبية، وكذلك تعريب التعليم، وفرض التدريس في التعليم العالي باللغة العربية في مختلف المجالات والتخصصات الطبيعية والإنسانية، مع الاستعداد الجيد لذلك، لغويًا وتقنيًا.
ليس لدينا أنظمة علمية وتقنية أو أدبية وفنية تمثّل خصوصيّتنا بين أمم الأرض الأخرى
أما القلق المعرفي، فيشمل كل ما يتعلق بانشغالات العلم والفكر والأدب والفن. إنها اهتمامات العقل المضنية، والتي نعاني منها كثيرًا في بلادنا العربية، ليس الأمر يقتصر على هموم المفكرين والعلماء في الفكر والعلم والبحث فيهما فحسب، بل هموم الوضع الخاص للعقل المعرفي العربي!.. فنحن، حتى الآن، لا يمكننا القول إنّ لدينا فلسفة عربية حديثة متكاملة، متفقًا عليها، تؤطر توجهات الأمّة الحضارية، وتميّز العقل العربي المعاصر مبدعًا ومنتجًا للفكر. وليس لدينا أنظمة علمية وتقنية أو أدبية وفنية، تمثّل خصوصيّتنا بكل وضوح بين أمم الأرض الأخرى!.. بل لم نزل، نقتات في كل هذه وتلك على منتجات العقل المعرفي والإبداعي الغربي.
وأما القلق الديني، فيكفي فيه انقساماتنا واختلافاتنا المربكة، وكثرة الجماعات الدينية التي تدعي كل واحدة منها استفرادها بطوق النجاة في الحياة الأبدية، وتمثيل سلطة السماء السرمدية...
مذاهب وفرق وأحزاب وتوجهات شتى.. تختلف في مسائل كثيرة، في العقائد الإيمانية والعبادات والمعاملات الشرعية... والتاريخ الإسلامي مليء بأعداد لا تحصى من الفرق والمذاهب والطوائف، ونحن نرث منها اليوم الكثير! ما يؤكد عميق القلق الديني في النفس والروح والهوية والانتماء! القلق المنعكس عن حالات التعصب للتجزؤ، والتشرذم، والتشظي..
وسيظل هذا القلق يؤرقنا ويتعبنا، حتى نتقارب ونتفق ونتصالح مع أنفسنا أولًا، ومع العالم من حولنا ثانيًا.
أما قلق المجتمع، فهو قلق عامة الناس، بسبب تقلبات الحياة الاجتماعية تحديدًا، وصراعات أنظمتها في الأسرة والقبيلة والمدينة.
وإيجازًا لهذا الشأن، لا تخفى انعكاساته المتشابكة في قلق السياسة العربية، والاقتصاد، والثقافة، والبيئة الاجتماعية برمتها...
القلق الحضاري وعي بالذات وشعور بالمسؤولية والواجب تجاه المفارقات المثبطة لتقدّم الأمّة وتكاملها التطوري
بقي سؤال مهم، يحوم حول كل هذا القلق الحضاري في عالمنا العربي المترامي الأطراف: هل هو خاص بفئات المفكرين والمثقفين والعلماء والباحثين وأصحاب الرأي والنظر، أم هو يخص أيضًا الحكام والمسؤولين وأصحاب النفوذ والقرار؟ وهل يمكن أن يتعلق أيضًا بالأجيال الصاعدة والشباب والحالمين بحياة مستقبلية راقية، على غرار ما يرونه في العالم المتقدم؟!.
لا شك أنّ القلق الحضاري هو ظاهرة صحية بكل المقاييس، لأنه كما أسلفنا، وعي بالذات وشعور بالمسؤولية والواجب تجاه المفارقات المثبطة لتقدّم الأمّة وتكاملها التطوري.. ولكنه ما لم يشعر به أصحاب القرار فعلًا ويعانيه الحكام والمتنفذون، والقياديون في مختلف المؤسسات العربية، ويبسط مؤثراته المختلفة على فئات عريضة من مجتمعاتنا، سيظل محصورًا في هموم المثقف العربي، المفكر، وصاحب الرأي المهموم، وهذا - على أهميته وضرورة وجوده - غالبًا ما يكون بعيدًا عن مواقع التأثير المباشر أو السريع، من أجل التغيير المطلوب.
(خاص "عروبة 22")