ثقافة

مستقبل بلا جغرافيا ولا تاريخ ولا هوية!

في وقت تنشغل فيه الأُسر المصرية بمحنة الثانوية العامة، تتجه السلطة مثل سابقاتها إلى تسكين الناس بتعديلات وتغييرات في أنظمة التدريس والامتحانات والمناهج، لعلها تخفف العبء النفسي والمادي عن كاهل الطلاب وأُسرهم.

مستقبل بلا جغرافيا ولا تاريخ ولا هوية!

أحد تلك الإجراءات الأخيرة ما أعلنه وزير التعليم المصري الحالي محمد عبد اللطيف بدمج عدد من المناهج وإلغاء عدد آخر، واعتبار مواد دراسية كانت أساسية مواد غير مضافة للمجموع الكلي، ويكفي الطالب النجاح فيها بأي درجة.

ألقت تلك التعديلات بجدل أكبر، حتى خرج البعض داعيًا إلى التخفف من دراسة التاريخ والجغرافيا واللغة العربية، بجانب المواد الفلسفية، كونها لا تساهم - حسب زعم هؤلاء - في تأهيل الطلاب لسوق العمل حسب احتياجاته الراهنة.

قبل أشهر من ذاك الوقت، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الأهالي إلى توجيه أولادهم للدراسات التكنولوجية والتطبيقية والفنية بدلًا من الإقبال الكبير على الدراسات الأدبية. ربما كانت دعوة الرئيس تتعلق بالكم حيث تتزايد أعداد خريجي الكليات الأدبية، فيما تبحث المناطق الصناعية عن فنيين مدرّبين ومؤهلين بحسب التصريحات الرسمية.

تيار يزعم الانتساب للتنوير فيما أجندته تتماشى مع أهداف تفتيت المنطقة ومسخ هويتها

كل النقاشات يمكن قبولها طالما تحلت بقدر من المنطق – الذي يدعو البعض لإلغاء تدريسه – لكن بعض المتطرّفين فكريًا يأخذون هذا الجدل لمساحة أكبر بدعوة مُلحّة لإلغاء ما يمكن أن نسميه مناهج الهوية والتعرّف على الذات.

ليس فقط التعرّف النفسي والاجتماعي عبر العلوم النفسية والاجتماعية التي حكمت التعديلات الأخيرة، ألا يتعرّف طالب الثانوية العامة على مبادئها ومقدّماتها تعرّفًا جديًا، وإنما لتخريج جيل جديد يفقد الإحساس بمكانه وزمانه وسياقه ولسانه العربي وامتداده في منطقته وإقليمه.

بعض أولئك الذين يركّزون فى حملاتهم تحديدًا على مناهج التاريخ والجغرافيا واللغة العربية خصوصًا ممن يقدّمون أنفسهم باعتبارهم أصواتًا زاعقة لتيار يزعم الانتساب للتنوير فيما أجندته تتماشى مع أهداف تفتيت المنطقة ومسخ هويتها والطعن المستمر في قيمها وتاريخها والتقليل من إنجازها، ليس هدفهم من تلك الدعوات تخفيف العبء عن الطلاب وأُسرهم ولا ضبط منظومة تعليمية تحتاج جهدًا عظيمًا في الضبط والإصلاح، بقدر ما يكمن هدف تلك الدعوات المتطرّفة المتزايدة إلى بناء جيل جديد لا يعرف مكانه من العالم كما يجب أن يعرف.

إذا طالعت المناهج التي يدعو هؤلاء لإلغاءها، في وقت تتزايد فيها حملات التفتيت الاستعمارية على المنطقة سواء بمساعي التفتيت من الداخل أو السيطرة السياسية والتحكّم الاقتصادي، لوجدت حقيقة واحدة تقفز إلى ذهنك، إذا تخيّلت أنّ الطالب المصري توقف قبل المرحلة الثانوية عن دراسة اللغة العربية وعلومها وفقد القدرة على التعبير بها وتذوّقها نثرًا وشعرًا والارتباط بها مع مجتمعه ومحيطه العربي. ذلك الارتباط الذي يبدو مقصودًا حين تطالع منهج الجغرافيا الذي يدور حول دراسة المنطقة وجغرافيتها السياسية وشكل الدولة والتحالفات الإقليمية وعلاقة كل ذلك بالنظام العالمي.

فيما يركّز منهج التاريخ على دراسة مصر الحديثة حيث انحسرت الخلافة العثمانية جغرافيًا وسياسيًا وتصاعد الانتماء العربي القومي، فيدرس الطالب مقدّمات وأُسُس هذا الانتماء، وتاريخ الاستعمار وجرائمه قبل وبعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وتفتيت اتفاقية "سايكس بيكو" للمنطقة، و"وعد بلفور" وإنشاء الكيان الصهيوني، ودور مصر العربية في دعم حركات التحرّر وفي مقدّمتها حركات تحرير فلسطين.

جيل لا يعرف التاريخ لا يعي العدو من الصديق

يصعب على جيل جديد ضعُفَ اهتمامه باللغة العربية أن يتعرّف على روابط تربطه بإقليمه العربي، ويصعب على جيل لم ينل القدر الكافي من الثقافة الجغرافية أن يفهم مركزية مصر في المنطقة والروابط بينها وبين محيطها الطبيعي، أو يقرأ الخريطة بوضوح ليعرف دون عناء أنّ الكيان الصهيوني جرى غرسه في جسد تلك المنطقة دون إجراء تحاليل التوافق المطلوبة طبيًا في حال زرع عضو جديد في أي جسد، ويصعب على جيل لم يتعمّق في التاريخ أن يفهم لماذا حارب آباؤه من أجل تلك القضية، ولماذا استشهد عشرات الآلاف في حروب استهدفت لجم الاستعمار الاستيطاني في الجزائر وأفريقيا وفلسطين، ويصعب على من لم يتعرّف على الجغرافيا والتاريخ أن يعرف ويستوعب مخاطر تهديد الأمن المائي القادم من الهضبة الحبشية في الجنوب، ولن يكون لجيل جرى تخفيف جرعته التاريخية القدرة على الصمود أمام ادعاءات تحاول باستمرار التهوين والتقليل من انتصارات أكتوبر 1973.. وسيجد جيل لا يجيد قراءة العربية روايات الآخرين أقرب إليه من روايات أجداده.

مطلوب إذن وفق تلك الدعوات بناء جيل لا يعرف الجغرافيا فلا يقدّر الأرض وقداستها ولا ينتمي لها، ولا يعرف التاريخ فلا يعي العدو من الصديق، ولا يستوعب دروس من سبقوه وهو يجابه التحديات.

جيل لا يعرف أين يقف ولا كيف ومتى ولماذا؟.. جيل بلا جغرافيا ولا تاريخ ولا هوية "جاء لا يعرف من أين".. ويشبه قول إيليا أبو ماضي ويتساءل مثله: "كيف جئت.. كيف أبصرت طريقي ومشيت؟.. لست أدري"!!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن