بصمات

الثقافة والعروبة

أدّت الثقافة العربية، بالمعنى الواسع للكلمة بحيث تشمل التعبيرات الفكرية والأدبية والشعرية والبحثية، دورًا أساسيًا في تعزيز العروبة، وعبّرت بمعنى آخر عن مستوى من مستويات الوحدة، في الوقت الذي تتراجع فيه كل أشكال الوحدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، خصوصًا في خطتنا الراهنة.

الثقافة والعروبة

منذ بدايات عصر النهضة في منتصف القرن التاسع عشر، وخلال ما يقرب من القرنين من الزمن أدت جهود اللغويين والأدباء والمترجمين وغيرهم دورًا أساسيًا في التواصل بين النخب في الأقاليم العربية التي لا يعرف بعضها إلا النذر القليل عما يجري في بعضها الآخر لتصبح الثقافة المجال الأوسع لتجسيد العروبة.

وفي الوقت الذي أوفد فيه محمد علي باشا والي مصر (1805-1848)، البعثات الطلابية إلى فرنسا ليدرسوا العلوم الحديثة والتقنيات الصناعية، عاد رفاعة رافع الطهطاوي من باريس عام 1831 ليكتب عن التقدّم والتمدن الأوروبيين، ويشرع في ترجمة الكتب عن اللغة الفرنسية ليضعها في خدمة الطلاب، كما ترجم بعض الآثار الأدبية مثل رواية تلماك للأديب الفرنسي فنلون: كانت الترجمة تعني لاحقًا التعرّف إلى المصطلحات والمفاهيم الحديثة مثل الوطن والحرية وغيرها. وهذا ما عمل الطهطاوي وعلي مبارك وحسين المرصفي في مصر على نقله إلى العربية، الأمر الذي اقتضى العودة إلى اللغة العربية الفصيحة التي بدأت تحل مكان الكتابة العامية أو الشفاهية التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر.

نقل اللبنانيون إلى مصر لغتهم الفصيحة وأنشأوا فيها الصحف وساهموا في نهضة المسرح والآداب

وفي لبنان كانت الجهود اللغوية أكثر وضوحًا، بل إنّ بعث فكرة العروبة كان أشّد تأثيرًا وهذا ما نجده لدى بطرس البستاني في: خطبة في آداب العرب (1859)، يقول في المقدّمة إنّ "الموضوع آداب العرب وإن شئتم فقولوا علوم العرب أو فنون العرب أو معارف العرب".

وبعد أن يستعرض ما قدّمه العرب في مجالات العلوم والآداب والفكر. يخلص إلى أنّ "التقدّم الذي حصل في هذه البلاد في السنين القليلة المتأخرة مما يقوي عزائم كل من له رغبة وغيرة على إنهاض الجنس العربي من حالته الساقطة، وإن أتعاب الذين صرفوا السنين الكثيرة في إدخال الآداب والتمدن بين العرب من أبناء الوطن والأجانب ستكلل بالنجاح...".

وهو يشير بذلك إلى ما نتج عن افتتاح المدارس الإرسالية والوطنية في بيروت والجهود التي بذلت في ترجمة الكتاب المقدّس بالعودة إلى القواميس والمعاجم العربية. وما حدث بعد عام 1860 من ظهور الصحف التي كانت تنقل اللغة الفصحى إلى عامة القرّاء. كرّست اللغة الفصيحة لغة القراءة ونقل العلوم. وقد توّج ذلك بإعداد المعاجم اللغوية. وضع بطرس البستاني قاموسه محيط المحيط، وأكد أنّ الهدف هو خدمة المواطن العربي. أما أحمد فارس الشدياق الأديب الموسوعي والكاتب ومؤسس صحيفة الجوائب فقد أنجز مؤلفه المعجمي الجاسوس على القاموس لحث أبناء الضاد على التمسك بلغتهم. وفي هذا السياق نذكر الدور الذي لعبه الشيخ يوسف الأسير في مراجعة الترجمات إلى العربية، وقد كان معلّمًا للغة. وأحد أبرز رواد النهضة اللغوية والأدبية هو الشيخ ناصيف اليازجي الذي ترك آثارًا بارزة في الشعر والمقامات التي كانت تدرس للطلاب كنماذج للغة العربية الفصيحة الصحيحة.

وسرعان ما أثمرت هذه الآثار وانعكست على طلاب المدارس الذين صاروا أدباء وصحافيين، فأصبحت العربية الفصحى هي أداة التواصل بين المتعلّمين وجمهرة القرّاء. وقد نقل اللبنانيون الكُثر الذين هاجروا إلى مصر لغتهم الفصيحة، وأنشأوا فيها الصحف وساهموا في نهضة المسرح والآداب، أمثال جرجي زيدان صاحب الروايات التاريخية التي قرأتها أجيال متعاقبة من التلامذة والقرّاء وأعجبوا بأسلوبها الفصيح والميسّر. وهو الذي أنشأ صحيفة الهلال التي لا تزال تصدر حتى الآن.

ومن اللبنانيين البارزين، الأخوان سليم وبشارة تقلا اللذان أسّسا صحيفة الأهرام الشهيرة التي لا زالت تصدر حتى يومنا أيضًا. ونذكر أيضًا مجلة المقتطف التي صدرت في بيروت عام 1876. ثم نقلها صاحباها يعقوب صروف وفارس نمر إلى القاهرة عام 1888.

تكرّست الفصحى لغة للرواية والشعر والصحافة والفكر وأصبحت الوسيلة التي تعبّر عن وحدة العرب الثقافية

أصبحت مصر في سبعينات القرن التاسع عشر وفي زمن الخديوي إسماعيل (1863-1881)، مركزًا للثقافة العربية خصوصًا مع إنشاء المدارس وبينها دار العلوم. ومدرسة الحقوق، التي خرّجت النخبة الفكرية والسياسية في مصر. ويكفي أن نذكر في هذا السياق أنّ سليمان البستاني مترجم الألياذة قد نشر ترجمته في دار الهلال بمصر عام 1904. أما إيليا أبي ماضي، الشاعر في دار الهلال وقبل هجرته إلى أمريكا، فأقام في مصر ونشر أول دواوينه في الإسكندرية عام 1910.

وهكذا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تكرّست اللغة الفصحى لغة للرواية والشعر والصحافة والفكر، وأصبحت الوسيلة التي يتواصل بها العرب والتي تعبّر عن عروبتهم ووحدتهم الثقافية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن