وضع التقارب الإيراني- السعودي بوساطة صينية، أولى معالم إعادة هندسة النظام الإقليمي للشرق الأوسط، وجاءت القمة العربية الدورية في جدة لتؤسس هي الأخرى لإعادة هندسة النظام العربي، خاصة مع العودة السورية إلى القمة بحضور الرئيس السوري بشار الأسد، لكن تبقى التطورات في السياقين، الإقليمي والعربي، غير مكتملة في ظل التردد واستمرارية المعوقات التي تحول دون تطبيع العلاقات التركية- السورية، خصوصاً أن هذه العملية تتم بوساطة روسية- إيرانية، ويعني نجاحها دخول تركيا لمرحلة جديدة من العلاقات الإقليمية الشرق أوسطية، واكتمال مكونات النظام الشرق أوسطي بمعالمه الجديدة: نظام عربي متعاضد ونشط وحريص على استعادة النهوض مع وجود فاعل لأهم قوتين عالميتين تؤسسان للنظام العالمي الجديد المأمول: الصين وروسيا.
معنى ذلك أن اكتمال عملية التفاعلات التأسيسية لتجديد وتطوير النظام العربي، والنظام الإقليمي للشرق الأوسط، يتوقف على الفرص المتاحة لحل أزمة العلاقات التركية- السورية التي يصعب أن تتحقق من دون حدوث لقاء قمة بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان، والسوري بشار الأسد، فما هي معوقات هذه القمة؟ وما هي الفرص المتاحة لانعقادها؟
السؤال أضحى يكتسب معنى جديداً بعد فوز أردغان بفترة رئاسية جديدة عقب الانتخابات الأخيرة. فقبل إجراء تلك الانتخابات كان الرئيس التركي شديد الحرص على تلك القمة مع الرئيس الأسد، وجرى تفسير ذلك على أن هذا الحرص دافعه انتخابي، وأن الرئيس التركي يريد توظيف هذه القمة لدعمه وحزبه انتخابياً، في مواجهة تكتل المعارضة ومرشحها الرئاسي كمال كليجدار أوغلو، التي كانت حريصة على توظيف ورقة «اللاجئين السوريين» والوجود العسكري التركي في شمال سوريا ضد الرئيس أردوغان.
كان موقف الرئيس السوري مختلفاً، لم يكن متحمساً للقاء قمة مع الرئيس التركي، وأعلن أنه يفضل إرجاء هذه القمة إلى ما بعد إجراء الانتخابات في تركيا، وأنه يشترط الانسحاب العسكري التركي من شمال سوريا لحضور هذه القمة. وحاول البعض تفسير موقف الرئيس السوري بأنه كان حريصاً على عدم إفادة الرئيس التركي انتخابياً من القمة، الأمر الذي حرص الرئيس السوري على نفيه في لقاءات صحفية، وتأكيده أنه كان حريصاً على إنجاح القمة بتوفير أسباب وضمانات نجاحها، وأنه لم يثق بالمعارضة التركية، وتعامل معها بحذر بسبب علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، ومواقفها المعادية للتحالف الروسي – الصيني – الإيراني، وهذا ما يفسر عدم تجاوبه مع غزل المعارضة التركية ورغبة رئيسها زيارة دمشق قبيل الانتخابات.
هذا يعني أن الرئيس الأسد أضحى أكثر استعداداً الآن للقاء الرئيس أردوغان أكثر من أي وقت مضى، خاصة بعد عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، والتطور الإيجابي الواضح في علاقات سوريا العربية، خصوصاً مع دول الخليج العربية، من بينها المملكة العربية السعودية، إضافة إلى مصر، ما يعني أن وضع الرئيس الأسد بات أفضل حالاً الآن من وضعه في الأشهر الماضية، إضافة إلى المردودات الإيجابية للزيارة المهمة التي قام بها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي إلى دمشق، منذ أسابيع قليلة، لكن يبقى السؤال: إلى أي مدى يحرص الآن الرئيس التركي على إجراء هذه القمة، وهل يمكن أن يؤثر فوزه في الانتخابات سلبياً في حماسه لانعقاد القمة مع الرئيس السوري؟
السؤال مهم في ظل المراجعات الجديدة التي يقوم بها الرئيس التركي لملفات السياسة الخارجية التركية، وفي ظل القيادات التركية الجديدة الشريكة في صنع السياسة الخارجية، خاصة هاكان فيدان، وزير الخارجية الجديد رئيس جهاز الاستخبارات السابق، وإبراهيم كالين رئيس جهاز الاستخبارات الجديد، المتحدث الرسمي السابق باسم الرئاسة التركية والأقرب إلى شخص الرئيس أردوغان والمتعمق في ملفات السياسة الخارجية التركية.
البيان الختامي للاجتماع الرباعي لوزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا وسوريا الذي استضافته روسيا في موسكو في العاشر من الشهر الماضي، أي قبل أربعة أيام فقط، من إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية أكد الأجواء الإيجابية والبناءة التي سادت تبادل وجهات النظر، وأن الوزراء كلفوا نوابهم بإعداد «خارطة طريق» لتطوير العلاقات بين تركيا وسوريا بالتنسيق مع وزارات الدفاع والاستخبارات للدول الأربع. لكن أهم من ذلك هي الدروس التي خرج بها الرئيس أردوغان من تجربة الانتخابات الأخيرة، وأولها العداء الأمريكي – الأوروبي له، وحرصهم على إسقاطه انتخابياً، على العكس من الحرص الروسي على فوزه، إضافة إلى وقوف دول عربية بقوة، إلى جانب تركيا في الوقت الحرج للانتخابات، كلها عوامل ترجح قبول الرئيس التركي بتجديد حرصه على لقاء الرئيس الأسد، خاصة إذا ما تم التوصل إلى «خارطة الطريق» المشار إليها وحلّ التعقيدات الأمنية.
(الخليج)