يبدو أنّ الوسطاء المصريين، باعتبار علاقتهم القوية مع البرهان، نجحوا في الوصول لحل وسط يحفظ ماء وجه البرهان وفريقه بعدم الذهاب لجنيف، وفي الوقت نفسه أقنعوه أن يرسل وفدًا للقاهرة ليناقش مع الوسطاء تفاصيل تطبيق الاتفاق.
ظلّ اتفاق جدّة شرطًا مسبقًا يتم استدعاؤه والتركيز عليه، باعتباره يضع إطارًا عامًا لوقف الحرب، ويشكل نقطة البداية للحل النهائي. بل أكثر من ذلك، فإنّ قيادات الجيش السوداني أعلنت أكثر من مرة أنها لن تعود لمنبر جدّة "ما لم يُنفّذ الدعم السريع الالتزامات التي وقّع عليها في إعلان جدّة". وقد صار هذا الشرط لازمة يتم تردادها باستمرار من الأطراف السياسية والإعلامية الداعمة لاستمرار الحرب ورفض العودة لمنبر التفاوض. وبدا كما لو أنّ الاتفاق موجّه لقوات "الدعم السريع" فقط... وأنه كفيل بإنهاء سيطرة هذه القوات على منازل المواطنين.
أهم نقاط الاتفاق تنحصر في حماية المدنيين وحرية حركتهم وتجنيبهم مخاطر الحرب
الآن، وإذا ما دخل النقاش في التفاصيل، ستتضح تفاصيل الاتفاق، وتتكشف أنواع الالتزامات المطلوبة من الطرفين، ومدى قدرتهما على الالتزام بها.
جاء هذا الاتفاق في مقدّمة وثلاثة شروط و21 نقطة التزام للطرفين. وحملت المقدّمة عبارات تؤكد رغبة الطرفين في تخفيف المعاناة عن كاهل الشعب، وتلبية متطلبات الوضع الإنساني الراهن الذي يمر به المدنيون.
أهم نقطة في المقدّمة تقول: ".. وندرك أنّ الالتزام بالإعلان لن يؤثر على أي وضع قانوني أو أمني أو سياسي للأطراف الموقّعة عليه، ولن يرتبط بالانخراط في أي عملية سياسية". هذا النص يوضح بجلاء أنه كان مجرد إعلان نوايا، يُفترض أن تتبعه خطوات لتحويله لبرنامج عمل يحقق الأهداف المرجوة منه.
أهم نقاط الاتفاق هي النقطة الثانية، والتي جاءت في 15 نقطة فرعية، وتنحصر كلها في حماية المدنيين وحرية حركتهم وتجنيبهم مخاطر الحرب.
وتنص نقاط هذه المادة على ضرورة التمييز في جميع الأوقات بين المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، والامتناع عن أي هجوم من المتوقع أن يتسبب في أضرار مدنية عرضية، واتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنّب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، واحترام حرية تنقّل المدنيين، والالتزام بحماية الاحتياجات والضروريات التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، والالتزام بالإجلاء والامتناع عن الاستحواذ واحترام وحماية كافة المرافق الخاصة والعامة كالمرافق الطبية والمستشفيات ومنشآت المياه والكهرباء، والامتناع عن استخدامها للأغراض العسكرية.
النقطة المهمة هنا هي المادة ( 2-ج) التي تنصّ على "اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، مما يهدف إلى إخلاء المراكز الحضرية بما فيها مساكن المدنيين، فعلى سبيل المثال لا ينبغي استخدام المدنيين كدروع بشرية".
من الواضح أنّ الاتفاق، كما ذكرنا، يتعامل مع الطرفين على قدم المساواة، ويرتب عليهما التزامات متساوية. وأي تنفيذ لهذا الاتفاق سيعني وقفًا لإطلاق النار، وإخراج كل القوات العسكرية للطرفين من الأحياء المدنية والمرافق العامة، وينظر في نقاط أو معسكرات لتجميعها، وسيستلزم هذا الأمر وجود قوات للفصل بين القوتين ومراقبة تنفيذ الاتفاق.
الأفضل لكل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية ألا تضيع هذه الفرصة حتى لا يدخل السودان في نفق مجهول
قبول الطرفين لهذه الالتزامات سيعني وقف الحرب بشكل حقيقي، أو لنكن أكثر دقة، سيعني وقف الأعمال العسكرية، ثم سيعقب ذلك ماراثون طويل من التفاوض السياسي لمناقشة مستقبل البلاد لفترة ما بعد الحرب. لكن الخطوة المهمة هي كيفية تمسّك الطرفين بالتزاماتهما الشفهية السابقة.
كان تنفيذ اتفاق جدّة أهم شروط الجيش السوداني، والمنتظر منه الآن إقناع القيادات العسكرية والمجموعات السياسية المتحالفة مع البرهان بالقبول بهذا الأمر، كذلك يشكل الأمر امتحانًا آخر لقوات "الدعم السريع" للالتزام بما أعلنوه، ولقدرتهم على السيطرة على مجموعة الميليشات التي قاتلت معهم، وإلزامها بقرار القيادة.
يبدو أنّ هناك فرصة حقيقية لوقف الحرب، ومن الأفضل لكل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية ألا تضيع هذه الفرصة حتى لا يدخل السودان في نفق مجهول لا تُعرف له نهاية.
(خاص "عروبة 22")