بصمات

نحن والألعاب الأولمبية

انتهت في باريس دورة الألعاب الأولمبية التي تُنظّم كل أربع سنوات (منذ سنة 1896)، وغني عن البيان أنّ الدورة تُمثّل، بالنسبة للدول المشاركة، فرصة سانحة للتنافس وإظهار الكفاءات وبالتالي تقييم الكفاءات الرياضية الذاتية التي في حوزتها مثلما أنها، بالنسبة للأبطال في مختلف الرياضات، مناسبة من أجل تحطيم أرقام قياسية دولية. ثم إنّ دورة الألعاب الأولمبية مناسبة لتجريب صنف رياضي جديد واختبار إمكاناته (في الدورة الأخيرة ثم اكتشاف وتجريب أربع رياضات جديدة).

نحن والألعاب الأولمبية

لكل هذه الاعتبارات نقول إنّ الألعاب الأولمبية تستوجب منا، نحن العرب، شعبًا ودولًا (وليس الدول التي كانت لها في هذه الألعاب مشاركة بالفعل) وقفة طبيعية - بل ضرورية وواجبة. وقفة مساءلة وإعادة نظر وتفكير في واقعنا العربي الراهن وقد حاولنا أن نسبر غوره ونستشف داءه من خلال معطى الألعاب الأولمبية. هذه الوقفة هي ما نود أن نجعل منه موضوعًا لحديثنا اليوم.

يلزمنا، بدءًا ، أن نذكّر ببعض معطيات مع التنبيه إلى دلالاتها - فهي تنطق بذاتها.

المعطى الأول، هو أنّ الدورة الأولمبية الأخيرة تنطق، في مستوى الإنجاز الرياضي، بما تشي به المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المستوى العالمي. تتربع على رأس قائمة الميداليات المحصّل عليها. الولايات المتحدة الأمريكية (40 ميدالية ذهبية، 44 فضية، 42 نحاسية). تزاحمها في ذلك الصين (40 ميدالية ذهبيه مثلها) ولا يجعلها في الرتبة الثانية سوى الفارق في الفضيات والنحاسيات.

المؤسف أنّ دولًا عربية غنية لم تحظَ بمكان في لوحة الميداليات

المعطى الثاني، هو أنّ باقي دول العالم التي تحتل الصفوف المتقدّمة في مجالات التصنيع والتجارة (اليابان، أستراليا، فرنسا، هولندا، بريطانيا، كوريا الجنوبية) بعيدة أشد البعد عن العملاقين الكبيرين (الصين والولايات المتحدة) والظاهر، بدلالة الدورات السابقة وشهادة مشاركات دولية أخرى، أنّ الأمر كان سيكون مغايرًا لو أنّ روسيا لم تُمنع من المشاركة في الدورة.

المعطى الثالث، هو أنّ الهند، وهي الدولة العظمى - من حيث السكان ثم من جهة الإمكانات الاقتصادية - لم تفُز بميدالية واحدة. في حين أنّ دولة متوسطة الحجم (بل صغيرة متى قورنت بالصين أو بأمريكا الشمالية) والقصد أوزبكستان، قد أحرزت ثمانية ميداليات ذهبية وفرضت احتلالها للصف 13 من أصل 91 دولة مشاركة. وهذا يعني أنّ هذه الدولة التي لا يفوق تعداد ساكنتها سكان المغرب أو الجزائر حصدت، بمفردها، من الميداليات ما فاقت به مجموع ما حصلت عليه تسع دول عربية (= 7 ميداليات ذهبية).

المعطى الرابع، الذي يحمل على النظر والمساءلة، هو أنّ دولة عربية في حجم دولة مصر لم تستطع الفوز سوى بميدالية يتيمة في كل نوع من الأنواع الثلاثة (الذهبية، الفضية، النحاسية). والحال أنّ مجموع سكانها يعادل سكان اليابان ويفوق أعداد دول أوروبية مجتمعة. والحال أيضًا أنّ مصر، بإمكاناتها البشرية وطاقاتها الرياضية الهائلة كانت - في الدورات السابقة - تفرض لنفسها وجودًا في رتبة أكثر تشريفًا (= الرتبة 52 في الدورة الحالية). والمؤسف، في معرض المقارنة أنّ دولًا عربية غنية، بل في مستوى عالٍ من امتلاك الثروة المالية، لم تحظَ بمكان في لوحة الميداليات.

لا يتسع المجال للتنبيه إلى الارتباط بين التقدّم الصناعي والتفوّق المالي والتكنولوجي وبين التقدّم في مجال الرياضة

لا يتسع المجال للمضي في معرض المقارنات بين أحوال الدول، ولا إلى التنبيه إلى الارتباط الفعلي (وليس المتوهم) بين التقدّم الصناعي والتفوّق المالي والتكنولوجي وبين التقدّم في مجال الرياضة وممارستها. القول بالتفاوت الصارخ بين عدد الميداليات المحصّل عليها من قبل دول الاتحاد الأوروبي (= 97 ميدالية ذهبية - ومجموع ساكنة تلك الدول يقل عن أعداد العرب في دولهم)، والميداليات المحصّل عليها من قبل دول أفريقيا (= 11 ميدالية - والأفارقة يعدون بمئات الملايين، وأفريقيا بطاقاتها الشبابية تصنع مئات أبطال العالم في كل الرياضات وليس في كرة القدم وحدها كما هو واضح وصارخ). مثلما أنّ المجال لا يتسع للوحة مقارنة بين الإمكانات التقنية والمالية المتاحة للرياضة (بأصنافها المختلفة) في دول الشمال والأخرى التي تصرف لها في دول الجنوب... بيد أننا ننبه إلى الأمر التالي البيّن بذاته:

هناك (في دول الشمال، وفي الصين، وكوريا الجنوبية وأمريكا الشمالية...) نجد للرياضة، وللفعل الرياضي حضورًا قويًا مباشرًا ويوميًا. تحضر الرياضة في الحياة اليومية للفراد والجماعات. تحضر في المعاهد والثانويات والجامعات، تحضر في فضاءات وفي ملاعب وتجهيزات لا يكاد يخلو منها حيّ أو منطقة حضرية أو ريفية.

الفعل الرياضي، هناك، بعض من المعيش اليومي. فما عسى أن نقول عن الرياضة (تجهيزًا) بالمسابح وفضاءات كرة القدم والسلة والطائرة... وفضاءات الرياضات البدنية، ومسالك الدراجات... بل وفضاءات يسلك فيها الراجلون من مختلف الأعمار؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن