كيف تتفاوض إسرائيل مع الفلسطينيين أو مع أي طرف آخر؟
هذا سؤال شديد الأهمية ينبغي على أي طرف عربي يتفاوض مع إسرائيل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الآن أو فيما بعد، وسواء كان يقيم معها علاقات أو في حالة عداء معها أن يكون على دراية كافية ومعرفة كاملة بأساليب التفاوض الإسرائيلية المختلفة والمتنوعة والملاوعة حتى لا يجد نفسه في دوامة ومتاهة لا تنتهي.
الذي ذكرني بهذا الموضوع أنني قابلت خبيرا مصريا في الشئون الإسرائيلية مساء الأحد الماضي عقب انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة من أجل التوصل إلى هدنة توقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتطلق سراح الأسرى.
سألت هذا الخبير المرموق عن تقديره وهل سنصل إلى اتفاق أم لا؟
لم أكن أقصد بالسؤال جولة مفاوضات الأحد التي لم تحقق اختراقا، بسبب استمرار التعنت الإسرائيلي، وكذلك بسبب التمسك المصري بضرورة الانسحاب الإسرائيلي من محور فيلادلفيا والإصرار الفلسطيني على ضرورة انسحاب قوات الاحتلال من كامل القطاع. لكن كنت أقصد مجمل المفاوضات خصوصا تلك التي يمكن أن تتكرر في المستقبل.
الخبير قال لي إن المصريين لديهم خبرة حقيقية بأساليب التفاوض الإسرائيلية، ولولا هذه الخبرة ما تمكنوا من استرداد طابا؛ حيث واجهوا كل الألاعيب والحيل الإسرائيلية، وهو ينصح الفلسطينيين بالاستفادة من قراءة هذه الدروس حتى لا يقعوا ضحية للخداع الإسرائيلي.
كلام الخبير صحيح جدا، ومن يتابع جولات التفاوض الأخيرة سيكتشف أن جراب الحاوي الإسرائيلي بلا نهاية!!.
الإسرائيليون على سبيل المثال وافقوا على مقترحات الرئيس الأمريكي جو بايدن في أواخر شهر مايو الماضي، ظنا أن حماس سترفضها لا محالة، لكنهم فوجئوا بأنها قبلتها فتراجعوا عنها بصورة طفولية، ثم ذهبوا لاجتياح رفح واحتلال محور فيلادلفيا.
وحينما بدأ التفاوض لتوقيع هدنة تنتهي بضرورة انسحاب إسرائيل الكامل من القطاع ومن الحدود فوجئ الجميع بتمسك بنيامين نتنياهو بأن قواته ستظل باقية في محوري فيلادلفيا ونتساريم في كل الظروف ولن تتركهما أبدا.
منذ بداية العدوان تتفنن إسرائيل في وقف دخول كل شاحنات المساعدات الإنسانية إلى القطاع. وحينما تسمح بدخول عدد قليل من الشاحنات، فإنها تتعامل وكأنها قدمت تنازلات كبيرة، وبعد فترة تتفنن في تفتيش دقيق للشاحنات بحيث تؤخر دخولها لأطول وقت ممكن، وفي بعض اللحظات تترك مستوطنيها يهاجمون هذه القوافل سواء عند معبر كرم أبوسالم، أو يهاجمون مخازن منظمة الأونروا في الضفة والقدس المحتلة.
ومما تسرب من كواليس المفاوضات فإن إسرائيل قالت إن قواتها يمكن أن تتراجع لمسافة ٢ كيلومتر من محور فيلادلفيا، ويمكنها أيضا أن تقلل شروطها بضرورة تفتيش كل الفلسطينيين العائدين من جنوب غزة إلى شمالها عبر محور نتساريم. والمضحك المبكي أن أمريكا اعتبرت هذا الكلام الإسرائيلي تنازلات، وهو ما دفع بعض مسئوليها للتصريح بأن هناك مواقف إسرائيلية إيجابية، وحينما ترفض حماس هذه التمثيليات يتم وصفها بأنها تتشدد أو تتراجع كما جاء على لسان الرئيس الأمريكي جو بايدن.
تقيم إسرائيل أكثر من نقطة مراقبة على محوري فيلادلفيا أو نتساريم، وحينما تقول إنه يمكنها تقليل هذه النقاط من ١٥ نقطة إلى ١٢ أو حتى عشرة، فهو يعتبر في عرفها وعرف واشنطن تنازلا يفترض أن يتم الترحيب به وقبوله؟!
وحينما يوافق الطرف الفلسطيني على نقطة محددة، معتقدا أن أمر التفاوض حولها قد انتهى، يتفاجأ بأن هناك مئات التفاصيل ما تزال عالقة والإسرائيليون يعيدون التفاوض عليها مرة ثانية وثالثة وعاشرة لدرجة أنني ظننت أن المثل الذي يقول "الشيطان يكمن في التفاصيل" قد ظهر للنور بعد إحدى جولات التفاوض بين الإسرائيليين وأي طرف آخر.
وحتى حينما يكون المفاوض متنبها وملما بكل الحيل والشراك الإسرائيلية فإنه يتفاجأ بأن الإسرائيليين يقولون في النهاية نعم نحن وافقنا على ذلك سابقا، لكننا لن ننفذ، وإذا نفذنا، فسوف تتفنن في التطبيق حتى نصيب الطرف الثاني بالزهق إلى أن ينسحب من تلقاء نفسه.
كتبت هذا المقال مساء الأحد الماضي. وعصر أمس الأول الإثنين توفي الدكتور نبيل العربي وزير خارجيتنا والأمين العام السابق للجامعة العربية.
واعتقد أن كل الدبلوماسيين العرب بحاجة ماسة لقراءة مذكراته "طابا كامب ديفيد ــ الجدار العازل"، الصادرة عن دار الشروق، وفيها يتحدث عن مفاوضات كامب ديفيد حيث عمل مستشارا قانونيا للوفد المصري، ثم رئيسا للفريق والوفد المصري الذي تمكن من استرداد طابا من إسرائيل بالتفاوض والتحكيم. وسأعود إلى هذا الموضوع غدا إن شاء الله.
(الشروق المصرية)