بيد أنّ التسليم بما سبق، هو من التسليم جدلًا بأنّ الديموقراطية لا تتعامل إلّا مع أناس فضلاء، أي مع أناس تتطاير التقوى من وجوههم وتبدو بشائر الورع على محياهم. إنّنا على العكس من ذلك، بإزاء بشر بنفسيات مختلفة، مُركّبة ومتباينة، خليط من كرم ومن بخل، مزيج من حب للذات، يذود المرء في ظله، على حقه في الكسب، لكن دونما التفكير في احتمال إلحاق الضرر بالآخرين، منافسين أو مستهلكين أو أصحاب حقوق، وضمنها قطعًا حق الدولة في تحصيل الجبايات، لتمويل خزائنها والقيام بوظائفها التقليدية دون تقصير أو تأخير.
إنّ السوق هو فضاءٌ لتبادل السلع والخدمات والمنافع المختلفة، ومجال تدافع المصالح والمبادرات، لكنه في الآن ذاته، مكمن المناورة والتحالف والتواطؤ، ثم محطة من الغش والتدليس، قد يبلغ مداها حد تحالف الكل مع الكل ضد الكل.
الشرائح المهمّشة بالسوق غالبًا ما تلجأ إلى ركوب ناصية سلوكات غير ديمقراطية
هذه كما تلك، ليست من السوق ولا من اقتصاد السوق. إنّها من مضمار الطبيعة البشرية المجبولة بالفطرة على التقاط أدنى إشارة قد تبوئها سبقًا، أو تمنحها موقع قوة، أو ترتب لها تمايزًا ما، يكون مفضيًا للتميّز.
تتكئ الديمقراطية على تمييز نظري دقيق، مفاده أنّ مجال الفعل العام هو من صميمها، فيما يبقى مجال الفعل الخاص من صميم السوق. المجال الأول مجال سلطة بامتياز، فيما الثاني هو نظام تراتبي قد يخضع لضبط السلطة، لكنه لا يتماهى معها دائمًا ولا يندغم في صلبها.
هما مجالان مختلفان، لكنهما يتقاطعان في أكثر من نقطة. إذ ما يجول بالسوق في ظل نظام سياسي ديمقراطي ما، غالبًا ما يجد انعكاسًا لتعبيراته الفئوية لدى النظام ذاته، وإلّا لانتفى مضمون ومعنى الحرية، باعتبارها الضامن لكل أشكال التعبيرات المباحة والمتاحة قانونًا أو بالعرف العام.
والقصد هنا إنّما هو القول بأنه من المعيب، من منظور النظام الديمقراطي، ألا يجد من عمد السوق إلى إقصائه أو تهميشه أو لفظه، ألا يجد وسيلة لتصريف احتجاجه أو تذمره بالفضاء العام. في غياب ذلك، فلن يستقيم منطق الديمقراطية المنبني على ضمان حق الفرد في إبلاغ صوته بحرية ودون إكراه.
والقصد أيضًا هو القول بأنّ الشرائح المهمّشة بالسوق، غالبًا ما تلجأ إلى ركوب ناصية سلوكات غير ديمقراطية، وتقتصر مطالبها في الحد الأقصى، على الجوانب المادية الخالصة دون الجوانب السياسية أو النقابية المباشرة. ولذلك، فمن النادر حقًا العثور على فقير معدم، همّشه السوق وأقصاه، يهتم بقضايا الشأن العام. إنها بنظره من نطاق مجال آخر، مجال السياسة ومجال النخبة.
يبدو المرء هنا، كما لو أنّه مصادر القوة على الفعل في السوق، ومصادر القدرة على الفعل بالسلطة، أي بمستوى التعبير السياسي المباشر. السوق بهذه الجزئية، يتقاطع ولربما يتكامل مع الديمقراطية، إذ في جنوح هذه الأخيرة للحيلولة دون احتمال الإقصاء بالسوق، تعمل الديمقراطية على منح النظام الاقتصادي القائم شرعية إضافية، وتستبعد إلى حد بعيد، فرضية أي نظام اقتصادي بديل.
بيد أنّ العلاقة بين المستويين تستوجب التساؤل في النظام السياسي المثالي الذي يصلح للسوق، والنظام الاقتصادي الأمثل الذي يجاري الديمقراطية ويصونها. المفروض هنا هو البحث عن مبادئ مشتركة تضمن التنافسية بين المستويين بما يستبعد التضاد والممانعة، ويحول دون تصادم الاقتصادي بالسياسي من زاوية الهيمنة أو مصادرة هذا لصلاحيات وخصوصيات ذاك. يجب أن تضبط السياسة غلو السوق واندفاعاته وتطرفه، ويجب أن "يتدمقرط" السوق بدرجة تجعل ولوجه ومغادرته أمرًا طوعيًا، اختياريًا وتلقائيًا في حالة الربح كما في حالة الخسارة.
الأفق هو إصلاح السوق بالديمقراطية أي بالبحث عن سبل لتطعيمه بقيم وآليات متجددة تجعل التنافسية هي معياره
السوق لا يتماهى مع حالات الفقر والإقصاء، لأنّ الفقراء هم أيضًا مستهلكون محتملون، لكنه يتبرأ منهم، ويحيل أمرهم على المستوى السياسي الذي يملك الأدوات والآليات لذلك، إذا لم يكن لإنصافهم، فعلى الأقل لسن قوانين في التوزيع تحد من إقصائهم.
صحيح أنّ للسوق عيوبًا كبرى، لكن علاجها لا يتأتى منه دائمًا، إذ لا يمكن تصوّر أفق لإصلاح أعطاب السوق بآليات منه، ذاتية. الأفق هو إصلاحه بالديمقراطية، أي بالبحث عن سبل لتطعيمه بقيم وآليات جديدة ومتجددة، تجعل التنافسية هي معياره، كما هي معيار السياسة سواء بسواء.
(خاص "عروبة 22")