ولم يكن بزشكيان يتطّلع من وراء ذلك لمجرد كسب أصوات النساء، لكنه كان يتطلّع لحشد أصوات الشباب بشكل عام سواء الرجال منهم أو النساء، فمن المعلوم أنّ مقتل الشابة مهسا أميني في عام ٢٠٢٢ كان السبب في تحريك الشارع الإيراني بكل مكوناته النوعية والعُمرية والاجتماعية والجهوية بعد أن صارت مقاومة فرض الحجاب رمزًا لرفض مُختَلَف أشكال التعدّي على الحريات الخاصة.
أما وقد فاز بزشكيان في السادس من يوليو/تمّوز الماضي على منافسه سعيد جليلي وصعد إلى رئاسة الجمهورية، فإنه أصبح مطالبًا بتنفيذ وعوده الانتخابية أمام الناخبين الذين أعطوه أصواتهم، ومن تلك الوعود ما يخّص العنف المرتبط بالحجاب.
بزشكيان كان يغازل الشباب ويدافع عن الحريات وفي الوقت نفسه كان حريصًا على تأكيد بقائه تحت مظّلة المرشد
ومن هنا فإنّ إطلاق الشرطة النار على السيدة آرزو بدري بسبب سوء حجابها بعد نحو أسبوعين من فوز بزشكيان إنما كان يمثّل أول تحدّ لموقفه من العنف ضد النساء. كانت بدري تقود سيارتها ليلًا عائدة إلى بيتها عندما لاحظت الشرطة عدم التزامها بالحجاب وأمرتها بالتوقّف لكنها لم تمتثل، فأطلقت الشرطة النار أولًا على إطار السيارة ثم صوّبت الرصاص تجاه بدري فاخترقَت رصاصة رئتيها وأصابت عامودها الفقري مما يهددها بالشلل.
وبذلك يُعّد هذا الحادث نموذجًا مثاليًا للعنف الشرطي المرتبط بالحجاب، وهو ليس الأول من نوعه بالتأكيد لكنه الأول منذ فوز بازشكيان بالرئاسة، وقد تلته حوادث أخرى منها قيام شرطي بضرب رأس فتاة في الرابعة عشرة من عمرها بصندوق بينما وضعَت شرطية قدمها فوق عنق الفتاة الصغيرة عقابًا لها على خلع الحجاب.
عندما نقيّم هذا الموقف نقول، إنّ الذين تابعوا الحملة الانتخابية لبزشكيان يدركون أنه حرص خلال كل مراحلها على إمساك العصا من المنتصف، بمعنى أنه كان يغازل الشباب ويدافع عن الحريات، وفي الوقت نفسه كان حريصًا على تأكيد بقائه تحت مظّلة مرشد الثورة والتغنّي ببطولات الحرس الثوري.
وهذا الموقف المائع كان هو السبب في عدم قدرة بزشكيان على حسم نتيجة الانتخابات لصالحه في الجولة الأولى. لكن صعود بزشكيان للجولة الثانية قد وضع الناخب الإيراني أمام خيارين أحلاهما مرّ، الخيار الأول هو التصويت لسعيد جليلي المحافظ الواضح في تشدّده، والخيار الثاني هو التصويت لمسعود بزشكيان الذي يلبس لبوسًا إصلاحيًا ويدعمه عدد من الرموز الإصلاحية أبرزها محمد خاتمي ومحمد جواد ظريف.
وبالتالي مالت الكفّة لصالح الخيار الثاني. لكن سياسة إمساك العصا من المنتصف كانت السبب لاحقًا في استقالة ظريف من منصبه الذي كان قد تقلدّه لبضعة أيام كنائب الرئيس للشؤون الاستراتيچية، إذ قيل في تفسير الاستقالة (قبل العودة عنها) إنها جاءت ردًا على تعيين محمود أسكندري وزيرًا للداخلية وهو القائد السابق لشرطة المرور والمعروف بتشدّده في إلزامية الحجاب، ما يعني أن بزشكيان تراجع عن نيته تخفيف الضغط على النساء. وفي السياق نفسه، استخرج خصوم بزشكيان من تاريخه السياسي ما يفيد أنه في عام ٢٠١٠ قام مع مجموعة من نواب البرلمان بالتقدّم بمشروع قانون لتشديد فرض الحجاب على النساء، وأنه تباهى آنذاك بأنه من قادة الثورة الثقافية في الجمهورية الإسلامية.
الرئيس الإيراني الجديد وضع يده في عش الدبابير من دون أن يكون مستعدًا لمواجهتها أو راغبًا في ذلك
ويزيد في إحراج موقف بزشكيان من قضية الحجاب أنّ قانون "دعم ثقافة العفّة والحجاب" الذي شرّعه مجلس الشورى واستحدث من خلاله عددًا من العقوبات الجديدة على غير الملتزمات بالحجاب، كان قد أجيز من جانب مجمع تشخيص مصلحة النظام قبل شهور قليلة، وذلك بعد أن كان قد اعترض مجلس صيانة الدستور على عددٍ من مواده خصوصًا ما يتعلّق منها بإسقاط الجنسية عن النساء منتهكات القانون. وبإجازة القانون من جانب المجمّع فإنه بذلك يضفي مشروعية على محاصرة النساء المخالفات، بعد أن كان فرض هذا الحصار يتّم بقوة الأمر الواقع وبدون سند قانوني. وإزاء هذا التطوّر لا يملك بزشكيان القدرة على المطالبة بالخروج عن القانون ومخالفة قواعده.
الخلاصة؛ إنّ الرئيس الإيراني الجديد برفعه سقف التوقعات أثناء حملته الانتخابية والخوض في موضوع الحجاب، قد وضع يده في عش الدبابير من دون أن يكون مستعدًا لمواجهتها أو حتى راغبًا في ذلك. إذ إنّ الحجاب بالنسبة للجمهورية الإيرانية يجسّد القطيعة مع النظام الملكي السابق والمشروع التغريبي الذي كان يتبنّاه، وبالتالي فكأن الانقلاب على الحجاب إن حدث سيمثّل انتكاسة للثورة الإسلامية والعودة لممارسات آل بهلوي، وهو ما لا يمكن التسليم به.
وهكذا يكون بزشكيان قد خذل ناخبيه بأسرع مما كان أحد يمكن تصوّره.
(خاص "عروبة 22")