العاتبون اللائمون ربما لسان حالهم يتساءل أو لعل بعضهم نطق بالسؤال مباشرةً قائلًا: لماذا لم تكبد المقاومة العدو خسائر أكبر وأكثر بما يثأر لعشرات آلاف الشهداء والمصابين من أهلنا؟!
الموجع أكثر أنّ حال اليأس ولوم المقاومة لم يقتصر مؤخرًا على قطاع من جمهور بسيط ومُحبط تسحق مشاعره يوميًا صور شلال الدم الهائل الذي يريقه العدو في غزّة والضفة الغربية من دون رادع أو عقاب، لكن هذه الحال تسربت إلى عقول فئة - ربما قليلة العدد - من نخبنا المحترمة!.
الظن بأنّ المقاومة هي "جيش صغير" يواجه جيشًا أكبر منه هو ظن خاطئ شديد الخطورة
هنا يبدو أنّ ضعف الوعي وسوء الفهم أصبح أكبر وأخطر من تركه هكذا بغير توضيح وتذكير كل من نسي طبيعة العدو وقدراته الحربية الهائلة التي لا يمكن مقارنتها بالقدرات التسليحية للمقاومة، وكذلك شرح معنى وطبيعة المقاومة عمومًا والمقاومة الفلسطينية خصوصًا في ظل بيئة عربية رديئة تصنعها نظم وحكومات عفا عليها الزمن.
ولتكن البداية بتذكير كل المحبطين بـ"طبيعة العدو"، أنه باختصار شديد "كيان عنصري استيطاني يقوم على أيديولوجية شاذة تجعله يتوسل بهمجية ووحشية قصوى لسرقة وطن وأرض يعرف أكثر منا أنها ليست لسكانه المستجلبون من شتى أصقاع الدنيا، ولا سبب لاستمراره وبقاء كيانه اللقيط إلا تمتعه بدعم لا محدود من القوى الاستعمارية والإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تمده بمختلف أشكال العون والإسناد، من أحدث وأشد الأسلحة فتكًا وتدميرًا، حتى منحه الغطاء السياسي الدائم، فضلًا عن حمايته طول الوقت من أن تطاله يد العدالة الإنسانية رغم فيض جرائمه وفظاعتها".
هذا عن العدو.. أما المقاومة فهي ككل مقاومة عرفتها البشرية في أي زمان ومكان، لا تملك من أدوات الحرب ما يجعلها تتفوّق على عدوها عدةً وعتادًا، وإنما تفوّقها الوحيد وسلاحها الفعال يكمن في شيئين اثنين حصرًا؛ أولهما التزامها الصارم خلال مراحل كفاحها المختلفة بشعبها وعدالة قضيته، وهو شرط تمتعها بقوة الحاضنة الشعبية التي لا سبيل لقهرها.
أما ثاني أسلحة المقاومة فهو تفوّقها الأخلاقي على العدو وصلابة تمسكها بمنظومة أخلاق صارمة تؤكد نبلها ورقيها الإنساني بحيث تكشف في الوقت عينه مدى تهاوي وانحطاط أخلاق الخصم.
تلك هي السمات العامة للمقاومة في أي وطن على سطح الكوكب يتعرض لعدوان واحتلال من قوى خارجية غاشمة، والمقاومة في فلسطين المغتصبة ليست استثناء منها، لكنها بحكم الطبيعة المتفردة والنادرة للعدو والظروف شديدة القسوة التي تحيط بها، يتعيّن عليها أن تستمسك أكثر بعناصر القوة وتحاول تعظيمها والتقليل إلى أدنى حد ممكن من أثر الاختلال الطبيعي الفادح في القوة المادية بينها وبين كيان العدو، وذلك عبر سبيلين اثنين، الأول تمتين أواصر علاقتها العضوية بجمهور شعبها وتجسيد أحلامه وطموحاته المشروعة، والثاني عدم الكف عن التعلّم والإمساك بمؤهلات التطور، لكي تتمكن من تعويض فارق القوة المادية الهائل بينها وبين العدو.
والحق أنّ الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة لم يكفا أبدًا يومًا عن محاولات امتلاك وتوظيف كل ما هو متاح لهما من وسائل العلم وتجنيدها لخدمة أهدافهما السامية، وأبديا على هذا السبيل - كما رأينا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول - نجاحًا ومهارةً أسطوريين، ما دفع بعضنا لنسيان أننا بصدد مجرد جماعات مقاومة وإن حسن تنظيمها، تتصدى ببسالة منقطعة النظير لعدو وحشي يملك جيشًا جرارًا متخمًا بأحدث أنواع الأسلحة الأمريكية والغربية عمومًا وأكثرها فتكًا وتدميرًا.
هزيمة العدو ستكون بالنقاط المتراكمة التي يصنعها دوام الصمود والمقاومة
إذن الظن بأنّ المقاومة هي "جيش صغير" يواجه جيشًا أكبر منه فقط، هو ظن خاطئ تمامًا لكنه شديد الخطورة، إذ يدفع لليأس والقنوط ومن ثم قد يبرر القعود عن مقاومة العدو وإلحاق الأذى به وتدفيعه ثمن جرائمه.
الخلاصة؛ أنّ هزيمة العدو وتفكيك أساسه العنصري وإنهاء خطره وحصار همجيته هو أمر محقق وحتمي، لكن هذه الهزيمة لن تكون بضربة قاضية كما قد يظن بعضنا، وإنما الهزيمة ستكون بالنقاط المتراكمة التي يصنعها دوام الصمود والمقاومة، كما أنّ العدو نفسه يساهم بقدر كبير في صنعها على نحو ما نرى حاليًا، إذ يدفعه جنون القوة الفائضة إلى الذهاب بعيدًا جدًا في الوحشية وممارسة أشد الجرائم قسوة وهمجية.. إنه يندفع الآن على طريق إنهاء كل شرعية لوجوده في المجتمع الإنساني.
(خاص "عروبة 22")