يفكرون ويكتبون عن اليوم التالي للحرب ضد الفلسطينيين، ونحن من هؤلاء. آخرون خططوا ونفذوا، أو مستمرون ينفذون الخطط، ليأتي اليوم التالي متوافقاً مع أهدافهم، وأطماعهم، وربما أيضاً مع أساطيرهم. عادة في مثل هذه الحروب يلعب العالم من حولها دوره في إحباط هذه الخطط، أو في تسهيل تنفيذها، وتحقيق أهدافها، والحرب الراهنة ضد أهل فلسطين، في غزة والضفة الغربية المحتلة، ليست استثناء، فللعالم دور فيها، بل أزعم أن دوره كان حاسماً، فبصمات هذا الدور سوف نراها في مختلف مشاهد اليوم التالي الذي يجري الآن تصميمه، وإعداد تفاصيله.
أسفرت الحرب حتى ساعة كتابة هذه السطور، عن آثار غير قليلة، أعرض لها في العناوين التالية:
أولاً: صارت قضية فلسطين تحظى باهتمام في الرأي العام العالمي لم تحظ به قضية أخرى من قضايا عالم الجنوب.
ثانياً: مقابل هذا الاهتمام غير المسبوق في السنوات الأخيرة وقع انشقاق، بل عدد من الانشقاقات، داخل إسرائيل نفسها، غير أن الأدهى وللمرة الأولى ترددت أنباء عن انشقاق أهم وأخطر داخل المؤسسة اليهودية العالمية، تناقلته بحذر شديد أجهزة الإعلام الدولية الكبرى.
ثالثاً: تعرّض للانكشاف المدى الذي وصل إليه النفوذ الإسرائيلي في عدد من قلاعه في دول الغرب، وبلغ الانكشاف أقصاه عندما صار الكونغرس الأمريكي موضوع سخرية بسبب احتفاله الصاخب والمسرحي باستقبال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو.
كما راح المدى بعيداً بسبب الغموض الذي اتسمت به السياسة الألمانية المؤيدة لإسرائيل تحت كل الظروف، غير عابئة بأي مبالغات في الجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني. الغموض الذي ولد في أعقاب الحرب العالمية الثانية 1945 وتضخم عبر السنوات اللاحقة، ليصير أحد أهم ألغاز السياسة في أوروبا المعاصرة ليطرح في النهاية السؤال: من الذي يحكم في ألمانيا؟.
رابعاً: تأثرت هيبة الولايات المتحدة باعتبارها القطب الأقوى في النظام الدولي الراهن لأسباب عدة، من بينها:
الدعم الدائم والثابت لإسرائيل خلال تنفيذها جرائم الإبادة الجماعية ضد شعب أعزل، وتعمدها قتل الصحفيين، ورجال الإغاثة الدوليين والمحليين، والأطفال.
السماح لإسرائيل باستخدام قنابل التدمير الشامل الأمريكية الصنع في قصف الأحياء السكنية في قطاع غزة المكتظ بالسكان.
شلّ دور ونشاط الأمم المتحدة، بخاصة مجلس الأمن لحرمان فلسطين من قرارات تكفل وقف القتال في غزة، وفي كل مكان تتواجد فيها القوات الإسرائيلية.
السماح لمسؤولين ومشرّعين أمريكيين بتهديد قضاة محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية لمنع إصدار قرارات تدين رئيس وزراء إسرائيل وبعض مساعديه بارتكاب جرائم إبادة جماعية.
استخدام أقصى أساليب إرهاب الدولة بعدما جيّشت واشنطن وأرسلت إلى الشرق الأوسط حاملات طائرات، وبوارج، ومسيّرات، لبث الرعب في عواصم المنطقة، بما فيها إيران وتركيا، ومنع أي منها من التحرك لمساعدة المقاومة الفلسطينية.
تلك كانت بعض الآثار التي نتجت عن حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل بدعم كامل معلن من القطب الأمريكي ضد الشعب الفلسطيني، أو تفاقمت بسببها.
لكن لتكتمل الصورة قد يفيد عرض بعض التفاصيل الهامة عن أحوال أهم اللاعبين في النظام الدولي والقوى الفاعلة فيه خلال اللحظات الحاسمة التي سوف تشهد بزوغ اليوم التالي لهذه الحرب، كلها كانت بين متغيرات عدة، قائمة قبل أن تشن إسرائيل حربها أعرض لعدد منها في ظني أنه باق معنا لفترة أخرى غير قصيرة:
أولاً: أمريكا، الطرف الأهم على الإطلاق في صنع هذه الحلقة من حلقات النكبة الفلسطينية، وبالأصح العربية، قطب مهيمن على النظام الدولي يتواصل انحداره، وتتهدد استقراره الداخلي عناصر انشقاق وفوضى، كثرت الكتابة عنها في داخل أمريكا، كما في خارجها.
ولا شك في أن إسرائيل والقوى المؤيدة لها في العالم، تضع في اعتبارها حساسية، ودقة، وخطورة الوضع الناشئ عن هذا الانحدار على مستقبل حروبها القادمة، ومكانتها، ووضعها النهائي في المستقبل.
ثانياً: أوروبا، القارة العجوز التي عادت لتواجه أهم مصادر القلق والخطر على مستقبلها، وهي الهجرة، والحرب الروسية الأوكرانية، والخلافات بين القيادات الحاكمة، والفورات الأيديولوجية، المعهودة والمستجدة، والصراعات الدينية الأصل، ودولة أو أخرى تتقدم، أو تتأخر، لتلعب دور رجل أوروبا المريض، وأتصور أن أكثر من دولة مرشحة الآن لهذا الدور.
ثالثاً: آسيا، القارة التي كان يجري إعدادها لتكون أهم ساحات الحرب الباردة الثانية دخلت حالة "التأرجح" إن صح التعبير.
لقد كانت أحداث الشرق الأوسط سبباً كافياً في نظر واشنطن لسحب أساطيل أمريكا من شرق قارة آسيا لحماية إسرائيل، باعتبارها الطرف الأهم في قائمة معادلات أمريكا الخارجية. الصين من ناحيتها لا تتعجل، ولن تتعجل، فهي تترك الأمور تنضج على نار هادئة لمصلحتها الجيو اقتصادية، والجيوسياسية أيضاً. تستطيع بكين الاقتراب بحذر من الفلسطينيين من دون أن تعرض مصالحها للخطر وتخترق بهدوء الحواجز الحساسة التي تغلف علاقات إيران بدول الخليج.
هذه المتغيرات، الدولية والإقليمية، مجتمعة، أو متفرقة، تشكل من وجهة نظري، أهم عناصر البيئة التي يجري في ظلها، أو بفضلها صنع وإقرار الشكل النهائي لليوم التالي لحرب الإبادة في فلسطين، وتحديد مواصفاته، وشروط استمراره، وعلاقة كل الآخرين به.
(الخليج الإماراتية)