صحافة

الضفة الغربية وتحولات الأمن الإسرائيلي

عبدالعليم محمد

المشاركة
الضفة الغربية وتحولات الأمن الإسرائيلي

حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة والمرشحة للاستمرار بسبب غياب أي نوايا إسرائيلية على إنهائها، لا تقتصر أهدافها على غزة وجغرافيتها الضيقة، بل تمتد إلى إقليم الشرق الأوسط كله، وذلك بهدف إخضاع الإقليم والقوى الفاعلة فيه لسطوة القوة الإسرائيلية وتأكيد التفوق الإسرائيلي المدعوم أميركياً وغربياً، بأحدث المعدات واللوجستيات الاستخباراتية والأمنية.

عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر وجهت ضربة قوية لعناصر الأمن الإسرائيلي والاستراتيجية الإسرائيلية في مواجهة الشعب الفلسطيني والمحيط الإقليمي، والتي تمثلت في توفر العناصر الأربعة التي تعتمد عليها هذه الاستراتيجية؛ أي الردع والإنذار المبكر والدفاع والحسم والتي تمت صياغتها وفق افتراضات وضعها المنظرون الإستراتيجيون الإسرائيليون؛ أولها ضيق مساحة إسرائيل جغرافيا، وثانيها أن إسرائيل دولة يهودية وتستهدف جلب اليهود من كل بقاع الأرض للحياة فيها وثالثها افتراض أن إسرائيل تعيش في محيط معاد يكن لها الكراهية ومعاد للسامية، وأن الاتفاقيات التي عقدت معها للسلام لم تتمكن من محاصرة وتقليص هذه الكراهية، وبطبيعة الحال فإن إسرائيل بسلوكها وجرائمها وعدوانيتها قد غذت القسط الأكبر من هذه الكراهية وهي تعلم ذلك جيدا ولكنها غير راغبة في تغيير هذا التوجه.

ورغم تأثر العناصر الأربعة للأمن الإسرائيلي بـ"طوفان الأقصى" والفشل الذي طالها مجتمعة؛ فإن عنصر الردع كان أكثرها تأثرا وإثارة للجدل، فالأصل في الردع في العلاقات الدولية هو منع الخصم من القيام بعمل يضر بمصالح صاحب قوة الردع، وقد أثبت طوفان الأقصى هشاشة الردع الإسرائيلي، وقابليته للاختراق على نحو مفجع لإسرائيل وكل ما تفخر به من تكنولوجيا استخباراتية وأمنية واستباقية. ونتيجة لذلك يركز الجدل حول الأمن الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر على تقليص الاعتماد على مفهوم الردع والإنذار المبكر، وضرورة الاعتماد على مفهوم "المنع الاستباقي" أي استخدام القوة لمنع التهديد مبكرا بدلا من انتظار وقوعه، واستخدام القوة للتعامل معه بدلا من الاعتماد على الردع.

وغني عن البيان أن الردع في الحالة الإسرائيلية لم ينجح في مواجهة المقاومة ومنعها من القيام بتوجيه الضربات، أو في مواجهة الدول العربية حتى بعد عام 1967؛ حيث بدأت حرب الاستنزاف ضد إسرائيل وانتهى الأمر بشن حرب أكتوبر 1973، والحال أن إسرائيل اعتمدت منذ البداية على المبادرة باللجوء إلى العدوان منذ قيامها ونشأتها؛ لطرد الفلسطينيين والقيام بالتطهير العرقي لتوطين المهاجرين اليهود واستمرار أغلبية يهودية في فلسطين، كان العنف ولا يزال هو العنصر الأساسي والتكويني في إستراتيجية إسرائيل، أما الردع فقد كثر الحديث عنه قبل السابع من أكتوبر على نحو خاص، والقول بأن "حماس" مرتدعة ولن تجرؤ على المبادرة بالهجوم على إسرائيل، وهي المقاربة التي روج لها نيتانياهو وأجهزة استخباراتية.

الهجوم الإسرائيلي في الضفة الغربية على المخيمات الفلسطينية في جنين وطولكرم وطوباس وغيرها وهو الأول منذ ما يقرب من 22 عاما، تأتي في هذا السياق؛ أي استباق الخطر بمنعه من الحدوث مبكرا، والحؤول دون تحول الضفة الغربية إلى جبهة جديدة تثقل كاهل الجيش الإسرائيلي وتحول بينه وبين الاستعداد والتفرغ للجبهتين الشمالية والجنوبية أي لبنان وغزة، كما أن توقيت هذا الهجوم تزامن مع تصويت الكنيست على إلغاء بنود قانون فك الارتباط الخاص بمستوطنات شمال الضفة الغربية وإقرار تجديد الاستيطان وتكثيفه، ولا يعني ذلك أن الضفة كانت تنعم بالهدوء قبل هذا الهجوم، بل كانت الاقتحامات وهجمات المستوطنين تتخذ وتيرة متصاعدة، ولكن الحرب على غزة شجعت إسرائيل على إسكات جبهة الضفة الغربية قبل أن تنفجر.

الهجوم الإسرائيلي على الضفة الغربية يستند إلى بعض الافتراضات؛ أولها أن إسرائيل تعتقد أن الضفة الغربية غنيمة سهلة، وأن الانتصار فيها قد يعوض الفشل في غزة، وأن المجتمع الدولي مشغول بما يدور في غزة ولن يلتفت إلى الضفة الغربية؛ بينما أنه من الممكن أن ينقلب السحر على الساحر، ذلك أن الضفة كثيفة السكان وربما يتوفر فيها السلاح بأكثر مما تعرفه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وأن وجود كتائب المقاومة لا يقتصر على "حماس" و"الجهاد"، بل توجد مقاومة من أصحاب الأرض، كما أن الضفة الغربية تحظى بوضعية دولية معترف بها ولن تستطيع إسرائيل إلحاق تهمة الإرهاب بالسلطة الفلسطينية الرسمية، واستمرار العدوان عليها سوف يكون له ردود فعل إقليمية ودولية خاصة وأن العدوان الإسرائيلي على الضفة لم يرتبط بحادث معين يبرره رغم أن إسرائيل ليست في حاجة إلى مثل هذا التبرير لشن هجماتها، بل بمبادرة إسرائيلية لإرضاء اليمين المتطرف الذي يعتقد أن معركة الضفة هي أم المعارك بالنسبة له، لأنه يخطط لتفريغها من سكانها وحملهم على الرحيل أو العيش وفق اللوائح اليهودية أي تصفية القضية الفلسطينية.

يخطط نيتانياهو في إطار حرب الإبادة على غزة لخلط كل الأوراق وجر المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة تعيد القضية الفلسطينية إلى نقطة الصفر خاصة مع إيران لتدمير مشروعها النووي والقضاء على حزب الله، وحجب أي أفق سياسي للحل والتسوية وفق مبدأ حل الدولتين خاصة في ظل وجود الأساطيل الأمريكية بالمنطقة بهدف معلن وهو الحفاظ على أمن إسرائيل وحمايتها والحؤول دون التصعيد والحرب الشاملة. فقدت إسرائيل قوة الردع ودخلت في حرب استنزاف في الجنوب والشمال، وظهرت حاجتها جلية للحماية الأمريكية ومع ذلك يسعى نيتانياهو واليمين المتطرف لجر المنطقة إلى حرب إقليمية، وإغلاق الباب أمام الحل الدبلوماسي والسياسي للصراع وستدفع إسرائيل ثمن ذلك إن عاجلا أو آجلا، المطلوب على الصعيد الفلسطيني إنهاء الانقسام وتفعيل أطر ومؤسسات "منظمة التحرير الفلسطينية" باعتبارها الوعاء الحاضن للصمود الفلسطيني.

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن