"إذا أراد الرئيس الإصلاحي الجديد الرد على إسرائيل، فليساعد العرب على أن يكونوا في مواجهة عدو واحد". قد تبدو هذه الجملة لبعض الناس محملة بـ"أمنية" مضخمة بأحلام شاعر يحلق في أفق رومنسي بعيد عن الواقع، وتبدو لآخرين شرطًا صعب التحقق إن لم أقل مستحيلاً في ظل نظام إيراني يغوص في أعماق التاريخ باحثًا في أحداثه عن مناطق الخلاف والاختلاف ليصدرها في الإقليم حقائق لا تقبل النقاش، وراسمًا لنفسه هدفًا أوحد جوهره التمدد في الأراضي العربية والهيمنة الإقليمية. بجملة البداية تلك ختم الكاتب القدير سمير عطا الله مقاله "السادة الإصلاحيون" المنشور في جريدة الشرق الأوسط يوم الإثنين الماضي.
"أمنية" الكاتب القدير سمير عطاالله بدت لي، ولا أشك في أنها كتبت على ظن آخر بالنسبة إلى الكاتب، وكأنها تحدد للقادم الجديد إلى كرسي الرئاسة الإيراني مسعود بزشكيان أن ينتهج سياسات مغايرة عن تلك التي سلكها من سبقه من رؤساء إيران من الاتجاهين، إذا صح التعبير، المحافظ منهم و"الإصلاحي" ممن دان لهم كرسي الرئاسة تباعًا منذ وصول الخميني إلى السلطة وفقًا لرغبات المرشد الأعلى وقراءاته للواقع السياسي في بعديه الداخلي والخارجي. وما أعنيه بالسياسات في هذا المقام موجه أساسًا للسياسات المتعلقة بدول الجوار وبالقضية الفلسطينية التي وجدت فيها إيران مسمار جحا وسبيلاً لدس أنفها في الشأن العربي دسًا هدفه الأوحد الفتك بالعلاقات العربية - العربية حتى يتيسر لها أمر السيطرة على دول منهكة، وهذا بالضبط ما جربته إيران في العراق وسوريا واليمن ونجحت فيه إلى حد الآن.
إذا جاز لنا مناقشة الجملة السالفة للكاتب سمير عطاالله، بوصفها شبيهة بـ«أمنية» ختم بها مقاله، فإننا حقيقة لا نضمن الدخول الآمن في نفق تملأ حلكة ظلمته سياسات عدوانية انتهجتها إيران تجاه الدول العربية عمومًا ودول مجلس التعاون الخليجي على وجه الدقة، مجتمعة وفرادى، منذ وصول الخميني إلى طهران قادمًا من باريس في عام 1979، ذلك أن تجربة أكثر من أربعين عامًا لا تدعم أي فرصة أمل تقود إلى تعديل النهج الإيراني في ما يتصل بالعلاقات مع دول الجوار، رغم السعي المثابر والمحاولات الجادة التي تجريها دول مجلس التعاون مع القيادات الإيرانية على اختلاف مسميات انتماءات رؤسائها المنتخبين، "محافظين" كانوا أو "إصلاحيين"، بل إن أجواء انعدام الثقة والتردي هو الإيقاع المنتظم الذي حكم هذه العلاقات، رغم أمنيات انفراج ضعيفة تتجدد كلما صعد "إصلاحي" إلى سُدة الرئاسة في إيران كما هو الحال اليوم مع الرئيس بزشكيان.
تحسين العلاقات العربية الإيرانية لا ينطلق من تأكيد مصالح الدول فحسب وإنما هو أمر يتصل بأمن المنطقة والدول والمجتمعات والاستقرار والتنمية والازدهار فيها. فإذا ما غيَّرت إيران من سلوكها في التعامل مع أمن الخليج في أبعاده الكلية والعمل على جعله أمنًا جماعيًا لدول الإقليم، وليس أمنًا يتصل بالمصلحة الإيرانية فحسب، فإن ذلك سيعزز الثقة بين الدول العربية الخليجية وإيران، كان من كان رئيسها، وكان من كان مرشدها. الجغرافيا رسمت قدر البلدان الواقعة فيه، والسياسة هي من يجب أن تضع حدودًا لهذا التجاور حتى يطمئن كل طرف على مصالحه. وما ينبغي أن يُدرك هنا في هذه المسألة، بل ما ينبغي أن يُذكر به أن نظرة حكومات دول مجلس التعاون لعلاقاتها مع إيران أو غيرها من الدول لا صلة لها لا بالدين ولا بالمذهب، إنْ هي إلا صلات تبنيها رؤية استراتيجية لمستقبل المنطقة وشعوبها.
الرئيس مسعود بزشكيان، قال في حوار مع التلفزيون الإيراني إن في بلاده لا يوجد أكثر من 100 مليار دولار - تصوروا، في دولة مثل إيران وبوفرة مواردها فوق الأرض وتحتها لا يوجد لديها أكثر من 100 مليار دولار - وتحتاج إلى 100 مليار أخرى لتحقيق معدل تنموي يبلغ 8%، مؤكدًا على تواصل إيران وانفتاحها على دول العالم ودول الجوار، وقال في هذا الصدد إن ذلك "مرتبط بتواصلنا مع الخارج، ومع العالم، ومع جيراننا ومع الإيرانيين في الخارج". تطلع مشروع بلا شك، لكن هل هو واقعي ضمن آليات العمل السياسي في إيران وهيمنة المحافظين على مفاصل الدولة؟
من وجهة نظري، فإن في قول الرئيس بزشكيان رشد سياسي نرجو دوامه، ولكن ينبغي الوعي بأن التواصل السليم مع العالم لا تبنيه الخطابات المنمقة والمطمئنة ولا يُبنى على حسن النوايا بل يتطلب أدلة عملية على أن إيران شرعت فعلاً في التخلي عن سياساتها العدائية مع جيرانها، وأعتقد أن قراءة سريعة لهذه الجملة من خطاب مسعود بزشكيان توفر لنا دليلاً على وجود هذه النية. ويبقى أن تتوفر سلطة القرار التي تقرأ المتغيرات قراءة سياسية بعيدًا عن التصور الإيديولوجي وعن هيمنة هاجس تصدير "الثورة". فإقامة علاقات طبيعية مع دول العالم ودول الجوار يأتي بالنفع حتمًا على الشعوب الإيرانية، ويجعل من إيران دولة قوية بإمكانياتها الاقتصادية والثقافية والحضارية وليس الحصول على السلاح النووي معيار قوة وأمن وأمان واستقرار.
السؤال المطروح هنا هو، هل ينجح الرئيس بزشكيان في ما فشل فيه الرؤساء الآخرون، ويجعل سياسة إيران تنطلق من حقائق الواقع الاقتصادي الإيراني الذي ينعكس فقرًا وبؤسًا ينذر بانفجارات اجتماعية أكثر خطرًا على الشعوب الإيرانية من تلك التي رافقت أكثر من رئيس إيراني، وليس من قوة إقليمية مفترضة مرسومة في مخيلة المرشد الإيراني وحرسه "الثوري"؟
وفي هذا الإطار لا بد ونحن نختم هذا المقال أن نذكر بحقيقة بديهية ينبغي أن تكون راسخة في رأس راسم السياسة الإيرانية مفادها أن أمن الخليج واستقراره يتوقف على مجريات السياسة الإيرانية، فإذا ما حسنت إيران صلاتها مع دول الجوار زاد هامش الاستقرار، وإذا ما ساءت تلك العلاقات تقلص هذا الهامش، خصوصًا وأن العالم برمته مقبل على تغييرات عميقة لن يبقى فيها للدول التي تسيء التقدير مكان.
(الأيام البحرينية)