كل سياسات الخصخصة التي اعتملت هنا وهناك، بمختلف بلدان العالم وبالبلدان العربية أيضًا، إنّما تنهل من واحدة من هاتين المرجعيتين أو منهما معًا، على أنّ الخلفية تبقى واحدة لا تتغيّر: علمنة السوق عبر تخليصه من الإكراهات الخارجية الدخيلة عليه، المربكة لآلياته، المعطلة لميكانيزمات التنافسية من بين ظهرانيه، أو المحرفة لسبل الإنتاج وأنماط توزيع فوائض القيمة على المشاركين في إفرازها.
قد يبدو اصطلاح "العلمنة" دخيلًا على التحليل، لأنّه يضمر حمولة دينية مستقاة من حقل معرفي آخر، مختلف تمامًا عمّا نحن بصدده. وهذا صحيح. بيد أنّ التصور الذي حكم اعتمادنا له إنّما هو تصور إجرائي ووظيفي خالص. إذ بقدر المطالبة بتحييد الوازع الديني في الممارسة السياسية، بقدر المطالبة بتحييد الإكراه السياسي في الممارسة الاقتصادية بالسوق. الأولى تحفظ للدين طهرانيته وتبعده عن المزايدات، فيما تمنح الثانية للسوق استقامته، وتحميه من المفسدة التي قد تترتب عن سطوة السياسي على مفاصله.
احتكار الدولة لقطاعات اقتصادية كبرى يدخل ضمن نطاق منع القطاعات من أن تكون مجال تنافس بالسوق
إنّ ما يُحرّك السياسي، والسلطة بوجه عام، ليس بالضرورة هو ما يُحرّك الاقتصادي، وما يُحفز الثاني ليس دائمًا أداة تحفيز للأول، إذ تداخلهما لحد الاندغام في حالات عدّة، إنّما من شأنه تبخيس الفعل السياسي عبر تسليع مخرجاته، ومن شأنه بالآن معًا، ارتهان الاقتصادي بما هو تدافع "طبيعي" بين فاعلين متنافسين بالسوق.
السوق سابقٌ على الدولة، لأنّ عمليات التبادل كانت قائمة قبلما تنتظم الدولة في هياكل ومستويات ومنظومات حكامة. ولمّا أصبحت الدولة كيانًا مهيمنًا، احتكرت العنف، واتكأت عليه لتقنن السوق وتنظمه وتعاقب ما قد يطاله من تجاوزات. السوق من هنا صناعة سياسية بامتياز، إذا لم يكن من منطلق أنّ الدولة هي فاعل مباشر فيه، فعلى الأقل من باب أنّها هي الضامن لنسقية مجاله، بما تضعه من قوانين ولوائح وتشريعات. هي التي تأمر وترخص وتمنع، تمامًا كما يعمد الدين إلى التحليل والتحريم.
إنّ احتكار الدولة لقطاعات اقتصادية كبرى يدخل ضمن نطاق المنع، أي منع القطاعات إياها من أن تكون مجال تنافس بالسوق. كما أنّ استئثار الدولة بقطاعات محددة، على خلفية من منطق المصلحة العامة أو حماية أسُس المرفق العام، هو من استثناء أنشطة اقتصادية وحصرها في جهة لا تخضع دائمًا لمبادئ اقتصاد السوق، فما بالك أن تمتثل لفلسفته ومنطوقه. لا يتم الاحتكام هنا لمبادئ النجاعة والجودة إلّا فيما ندر، إذ إنّ تغييب قيم المنافسة وهيمنة التدبير البيروقراطي يعفي هذه القطاعات من الالتزام بالحد الأدنى من شروط الفعل الاقتصادي، الذي لا يمكن الاعتداد بها إذا لم توضع على محك التدافع بالسوق.
عندما تعمد الدولة إلى تقويض الاحتكارات العمومية الكبرى، بتحرير سوقها أو بخصخصتها، فهي إنّما تروم إعادة تشكيل السوق من جديد، بما لا يترك للدولة إلا الأدوار التقليدية (غير الاقتصادية قطعًا)، التي تكفلت بها منذ البدء، وكانت في صلب غاياتها ووظائفها، بانية لهويتها.
بالتالي، فإنّ إعادة البناء السياسي للسوق إنّما هو من علمنته، أي من العمل على أن يسترد السوق ما تمت مصادرته من بين يديه، بدعوى المرفق العام أو المصلحة العامة أو السيادة الوطنية أو ما سواها. إنّها تخليص للسوق من إكراهات السياسة، أو لنقل من سطوة السياسي على أنشطة هي صميم الفعل الخاص، وليست من صلب الفعل السياسي. هي علمنة شبيهة بتلك التي تنادي بتخليص الدين من السلوكات التي تصادره، ثم توظفه، ثم تركب ناصيته لبلوغ مرامي ليست من الدين في شيء.
الدولة هي المؤتمن على العلمنة في حال السوق كما في حال الدين
بيد أنّ هذا الطرح لا يذهب حد القطيعة بين المستويين. إنّه يراهن فقط على ضمان الفصل بين الأبعاد المتباينة، لا سيما بين بنية السوق وبنية الدولة. لكل منهما أن يحتكم لمرجعيته، ولا يتجاوز على باقي المرجعيات، تمامًا كما لا يحق للدولة كمستوى عام أن تتجاوز على الدين كمعطى خاص، فتستصدر مقوماته لفائدتها، وتدمج ما هو خاص في المجال العام.
ومع ذلك، فللدولة في الحالتين معًا، مقام مميز. إذ هي المؤتمن على العلمنة في حال السوق كما في حال الدين. عليها أن تنظم وتقنن وتراقب. لكن عليها أن تصون لكل فعل مجاله، ترسم له الحدود وتزجر التجاوزات إذا طرأت.
(خاص "عروبة 22")