صحافة

استقرار الأردن حاجةٌ فلسطينية وعربية

غسان شربل

المشاركة
استقرار الأردن حاجةٌ فلسطينية وعربية

من يعرفُ الأردن يعرف أنَّ قدره أردنيٌّ وفلسطينيٌّ معاً. لا يستطيع الاستقالة من الجرحِ الفلسطيني ولا يريد. قيام حلّ الدولتين مصلحةٌ أردنيةٌ عليَا. بقاء هذا الجرح نازفاً يجعل القلق جزءاً من حياة الأردن. بين المصيرين الأردني والفلسطيني تداخلٌ لا يمكن فكُّه. ومن يعرف الملك عبد الله الثاني يعرف أنَّ حلَّ الدولتين بندٌ ثابتُ الحضور على أجندة محادثاته مع زوَّاره وفي علاقاته الدولية الواسعة.

يعتبرُ الأردن حلَّ الدولتين مفتاحاً لا بدّ منه لإنصاف الشّعب الفلسطيني بعد هذا الظُّلمِ المتمادي منذ قرون. يعتبر الحلَّ ضرورة لاستقرار الأردن ومنع رياح التَّطرف من الهبوب. يرى حلَّ الدولتين حاجة فلسطينية وأردنية وعربية ودولية. استمرارُ النّزاع يبقي خطر عدم الاستقرار حاضراً. يرغم الدول المعنية على استنزاف مواردها في ما يساعدها على تبديد القلق أو خفضه. ويعتقد الأردن أنَّ حلَّ الدولتين شرط لبناء الاستقرار في المنطقة التي تعيش على صفيحٍ ساخن منذ قيامِ الدولة العبرية. الدولة الفلسطينية تحصّن المنطقة من المشاريع التي تتكئ على الظلم الفلسطيني لتحقيق أجندات تتعلّق بتوسيع النفوذ أو تعزيز الأدوار.

الحقيقة هي أنَّ العالم ارتكب خطيئة كبرى حين لم يسارع إلى إطفاء نار الحرب في غزة. نقول العالم ونقصد الدّول الكبرى القادرةَ على التأثير ومعها الأطراف المنخرطة في الحرب. ولم يكن سرّاً أنَّ حرب غزةَ أكبر من غزة. وأنَّ ترك الحرب تقترب من إطفاء شمعتها الأولى يضاعف الأخطار في مسرح المواجهات وعلى أطرافها.

دخلت الحرب مرحلة أشدَّ هولاً حين قرَّر الجيش الإسرائيلي اقتلاع بؤرِ المقاومة في الضفة الغربية. ولا مبالغة في القول إنَّ مشاهد المذبحة المفتوحة في غزة جارحة ومؤلمة وتضخّ عاصفة من الغضب في عروق المنطقة. ومن تابعَ المواجهات الإسرائيلية - الفلسطينية السابقة لا يستغرب أن يتسبَّب موسم القتل المبرمج والتدمير الممنهج بتطايرِ شرارات النزاع خارج مسرحه الأصلي.

أخطرُ ما في الحادث الذي شهده جسر الملكِ حسين أمس وأدّى إلى مقتل ثلاثة إسرائيليين أنَّه يحدث في ظلِّ حكومة إسرائيلية متطرفة ومتهورة تتصرَّف وكأنَّ المواجهة الحالية يجب أن تنتهي بالضربة القاضية. يقول أنصار هذا الاتجاه إنَّ إسرائيل لا تستطيع قبول حلّ يترك احتمال اندلاع حرب جديدة في المستقبل القريب. من هنا محاولة شطب غزة من الخريطة. تحويلها حقولاً من الركام لا تصلح للحياة. وزعزعة استقرار الضفة وإثارة رعب سكانها من احتمال انتقال مشاهد غزة إلى بيوتهم وقراهم لفرض وقائع جديدة على الأرض.

وما لا يقلُّ خطورة هو عجز المعارضة الإسرائيلية الداخلية عن إطاحة بنيامين نتنياهو الذي تتَّهمُه بإطالة الحرب. الفشلُ الداخلي رافقه فشلٌ خارجيٌّ أيضاً. لم تستطع إدارة جو بايدن ترويض نتنياهو ولم تتمكّن من تنظيم انقلابٍ عليه. يزداد تشدداً ويأخذ أميركا معه إلى شفير حرب إقليمية نجحت واشنطن حتى الساعة في منع الانزلاق إليها.

تتصرَّف حكومةُ نتنياهو على أساس أنَّ الحرب الحالية هي حرب وجود يستحق كسبها تقديم خسائر بشرية واقتصادية وخسائر في علاقات دولية وإقليمية. تمكَّن نتنياهو من جعل إسرائيل تخوض حرباً طويلة خلافاً لما اعتادت عليه من حروب قصيرة. تمكَّن عملياً من إدخالها في حرب متعددة الجبهات بلغت نيرانُها الأراضي اليمنية والإيرانية. حربٌ مفتوحةٌ وبلا حدود شملت اغتيالات مدويةً في بيروت وطهران.

في هذا المناخ الإسرائيلي يعتبر حادث جسر الملك حسين بالغ الخطورة. يمكنُ لإسرائيل أن تستغلَّه لإحكامِ العزلةِ حول الضَّفة التي تعيش على دويِّ الاقتحامات التي تلتقي فيها الدباباتُ بالمسيراتِ والجرافات. يمكن القول إنَّ حكومة نتنياهو اعتبرت "طوفان الأقصى" حرباً لا مجرد عمليةٍ لمبادلة رهائن بأسرى. تحرص منذ ذلك التاريخ على إبرازِ البعد الإيراني في المواجهة الحالية لتفادي التعامل مع الجوهر الفلسطيني للنزاع. تصوّر الوضع على أنَّه محاولةٌ لاقتلاع دولة إسرائيل يضطلع الفلسطينيون بدورهم فيها إلى جانب إيران و"حزب الله" وسائر أطراف "محور الممانعة". لهذا قرَّرت إسرائيلُ إطلاق حرب على الفلسطينيين وليس مجرد ردٍّ أو عقاب.

منذ بداية الحرب التدميرية في غزة، رفع الأردنُّ الصوت محذراً من الأخطار الواسعة. في موازاة مبادراته المتواصلة في عمليات الإغاثة، زاد وتيرة إداناته لسياسة الجرافات الإسرائيلية. مع نقلِ إسرائيل حربها على غزة إلى مخيماتِ الضَّفة ومدنها تصاعد الشعور الأردني بالخطر. لا يقتصر القلق على التَّخوف من عمليات تهجير من الضفة بل يشمل أيضاً الخوف من فرض واقع على الأرض يجعل حلَّ الدولتين متعذراً. وهذا يعني تذويب القضية الفلسطينية وإغلاق كلّ النوافذ، ما يُبقي المواجهات المفتوحة خياراً وحيداً.

يعرف الأردن أنّه مستهدف وأنَّه قاوم طويلاً الدعوات الإسرائيلية إلى حلّ المشكلة الفلسطينية على حسابه وأنَّه مستهدفٌ بسبب امتلاكه أطولَ حدودٍ مع إسرائيل. ومستهدفٌ لأنَّه اختار الاعتدال لغة في علاقاته الإقليمية والدولية مع تمسُّكه الصارم بحرية قراره رافضاً ضغوط الجغرافيا والاندفاعاتِ الإقليمية، وبينها الاندفاع الإيراني. ولا مبالغة في القول إنَّ استقرار الأردن حاجةٌ فلسطينية علاوة على كونه حاجة أردنية. الأردن المستقرُّ عنصر مساعد في البحث عن إنهاء الظُّلم اللَّاحق بالفلسطينيين. استقرار الأردن حاجةٌ عربيةٌ ملحةٌ لأنّ غياب هذا الاستقرار سيحدث إخلالاً كبيراً وخطراً بموازين القوى الإقليمية.

للأردن تجربة طويلة في العيش وسط الأخطار. ساهمت في حمايته السياسات الواقعية والصيانة الدائمة لعلاقاتِه الدولية فضلاً عن وجود مؤسسة أمنية متماسكة تدربَّت على العيش وسط حرائق الإقليم.

(الشرق الأوسط)

يتم التصفح الآن