ودفع ذلك بعض القوى السياسية لتأسيس "الحملة الشعبية لحماية الأصول المصرية". وقد وصلت الديون الخارجية المصرية في بداية يناير من العام الحالي إلى 168 مليار دولار منها نحو 30 مليار دولار ديون قصيرة الأجل وواجبة السداد خلال عام، بعد أن كان إجمالي الديون الخارجية القصيرة والطويلة الأجل معًا مجرد 46,1 مليار دولار في منتصف عام 2014، بينما تبلغ الديون الداخلية 15 تريليون جنيه في العام المالي الحالي بعد أن كانت مجرد 1,8 تريليون جنيه في يونيو 2014.
الأصول العامة نوعان: الأول هو الأصول الطبيعية من أرض بما عليها وما في باطنها، ومن جزر وشواطئ وبحيرات، وهذه تشكل جغرافية الدولة، وبيع أي جزء منها وبخاصة أرضها وجزرها للأجانب يشكل كارثة تمس حدود وسيادة الدولة.
ينوي البنك وصندوق النقد الدوليين توريط الحكومة المصرية لتتضاعف ديونها لمستويات تسلب منها أي استقلال أو إرادة
وقد أدركت مصر ذلك منذ العهد الملكي. وفي فبراير 1951 أقر البرلمان المصري القانون الذي "يحظر على غير المصريين سواء كانوا أشخاصًا طبيعيين أم اعتباريين اكتساب ملكية الأراضي الزراعية والأراضي القابلة للزراعة والأراضي الصحراوية بالمملكة المصرية"، لكنه سمح باستمرار ملكية الأجانب للأرض المصرية التي بحوزتهم. وفي عام 1963 صدر القانون رقم 15 لعام 1963 الذي قضى بحظر تملك الأجانب للأراضي الزراعية وما في حكمها من الأراضي البور والصحراوية وأيلولة ما يملكونه من هذه الأراضي إلى الدولة المصرية. وذلك المبدأ بدأ تحطيمه في عهد السادات من خلال القانون 43 لعام 1974، وتم استكمال تخريبه في عهد مبارك.
أما النوع الثاني من الأصول العامة فهو المشروعات الصناعية والزراعية والخدمية التي صنعها الإنسان. وقد اعتمد الحكم الراهن في مصر سياسة بيع الأصول العامة، أي خصخصة كل شيء مملوك للدولة المدنية تقريبًا، وطرح ذلك صراحة من خلال الوثيقة التي صدرت عن رئاسة الوزراء بعنوان "سياسة ملكية الدولة"، وهي في جوهرها برنامج عملاق للخصخصة من خلال ما تسميه الوثيقة تخارج الدولة من الأصول المملوكة لها.
الحكومة تريد خصخصة ما قيمته 480 مليار جنيه سنويًا لمدة 4 سنوات
وأوضح وزير المالية السابق الهدف من الوثيقة بأنّ الدولة ترغب في بيع أصول عامة بقيمة 40 مليار دولار على مدى 4 سنوات، بما يعني خصخصة ما قيمته 10 مليارات دولار سنويًا. وحتى تحصل على القيمة بالدولار لا بد أن تبيع للأجانب. أي أن المستهدف هو بيع الأصول المصرية للأجانب، وبقيمة تعادل 480 مليار جنيه سنويًا.
وأشارت الوثيقة إلى أنه سيتم التخارج من المحاصيل البستانية والغابات الشجرية والحبوب ما عدا القمح. والصياغة تعكس خللًا في المفاهيم، فكل هذه الزراعات والمحاصيل هي منتج وليست أصلًا يمكن التخارج منه، فالأصل الإنتاجي الذي يمكن بيعه هنا هو الأرض الزراعية، وهذا يعني أنّ الأرض الزراعية المملوكة للدولة مطروحة أيضًا للبيع.
230 مليار دولار تقديرات "البنك" العبثية لفجوة تمويل البنية الأساسية
وتشير الوثيقة في موضع آخر إلى أنّ تقديرات البنك الدولي لفجوة التمويل في مشروعات البنية الأساسية تبلغ 230 مليار دولار، وهو تقدير عبثي لا أساس له ويشير إلى حجم مشروعات البنية الأساسية التي ينوي البنك وصندوق النقد الدوليين، توريط الحكومة المصرية فيها لتتضاعف ديونها الخارجية لمستويات خيالية تسلب منها أي استقلال أو إرادة سياسية واقتصادية لو تورطت فيها.
أما الصندوق السيادي الذي يتأسس عادةً في الدول صاحبة الفوائض المالية، فقد تأسس في مصر بلا مناسبة في دولة مثقلة بديون هائلة، ومكبلة بعجز دائم في موازينها الخارجية. وقد بلغ المتوسط السنوي لعجز ميزان الحساب الجاري المصري نحو -3,9% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة من عام 2015 حتى عام 2024. والهدف الأساسي من هذا الصندوق هو الاقتراض والخصخصة بصورة أساسية. وهو غير مقيّد بالقواعد والنظم الحكومية، بل ويسمح القانون بوجود أعضاء أجانب في مجلس إدارته وجمعيته العمومية ممن يعملون في صناديق عربية أو أجنبية مناظرة!
دخل الاستثمارات الأجنبية بعد الخصخصة سيتم تحويله للخارج وسيشكل ضغطًا هائلًا على سعر صرف الجنيه المصري
وللصندوق الحق في الاقتراض بكل صوره، وشراء وبيع واستئجار واستغلال ما آل إليه من الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها، أو المشاركة بها كحصة عينية. أي أنه مدخل عملاق لتضخم ديون الدولة المتضخمة أصلًا، ولبيع الممتلكات العامة، بدلًا من إصلاح وتحديث القطاع العام، وفتح الباب للاستثمارات الخاصة المصرية والأجنبية لبناء مشروعات جديدة أكثر أهمية وضرورة لمصر، بدلًا من تداول مشروعات قائمة فعليًا وتحقق أرباحًا كبيرة مثل شركات أبو قير للأسمدة، وموبكو للأسمدة، والإسكندرية لتداول الحاويات، والبنك التجاري الدولي، والمصرية للاتصالات التي تم بيع حصة المال العام في كل منها كليًا أو جزئيًا والتي لا يملك الشعب حق الطعن على صفقات بيعها حتى لو كان هناك فساد واضح فيها، بسبب القانون الرديء رقم 32 لعام 2014 الذي يحصن العقود العامة من دعاوى البطلان من غير طرفيها المباشرين.
وفي ظل النفق الأسود للعجز المالي الهائل الذي تتخبط فيه السلطة، فإنّ بيع الأصول العامة المملوكة للشعب سواء كانت مستغلة أو غير مستغلة يمكن أن يقدّم معالجة مؤقتة وهشة لهذا العجز، حتى لو كانت مسمومة ومنتهكة لحقوق الأجيال القادمة، ومعتدية على ما بنته الأجيال السابقة. والأسوأ أنّ دخل الاستثمارات الأجنبية بعد الخصخصة سيتم تحويله للخارج في صورة دولارات وبالسعر الرسمي وسيشكل أزمة دائمة وضغطًا هائلًا على حصيلة مصر من الدولار والعملات الحرة، وعلى سعر صرف الجنيه المصري، وعلى حركة أسعار السلع والخدمات وعلى الدخول الحقيقية ومستويات معيشة المواطنين. إنها ببساطة سياسة التخبط في "ثقب أسود" بلا نهاية طالما استمرت السياسات الاقتصادية الراهنة!.
(خاص "عروبة 22")