تلك الحرب الإجرامية من أهم عناوين وقائعها المروّعة تعمُّد إزهاق أرواح عشرات آلاف البشر العزّل بمن في ذلك الأطفال حتّى بلغ عدد هؤلاء، حسب أحدث أرقام منظمة "اليونيسف" الأمميّة، في قطاعٍ لم يكن يتعدَّ عدد سكانه قبل الحرب المليونين و300 ألف نسمة، أكثر من 22 ألف طفل شهيد، أمّا أعداد الأطفال الجرحى فهُم حوالى ثلاثة أضعاف هذا الرّقم.
ولأنّ همجيّة الصهاينة جاوزت في الخسّة والعنف الأهوج حدود الجنون، فقد استخدموا، الى جوار عشرات آلاف الأطنان من القنابل والمتفجرات، العطش والجوع الشامل والحرمان المُطلق من كلّ ضرورات الحياة، سلاحًا في حربهم الإبادية على الفلسطينيين سكان القطاع.
نحن أمام "دولة" جرى تصنيعها إمبرياليًا لكي تكون أداة للقتل وليس مجرّد سارقة وطن
وقبل أيام، أطلق برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة تحذيرًا خطيرًا قال فيه إنّ نحو أكثر من 71 ألف طفل غزّاوي قد يموتون أو يعانون أضرارًا جسمانيةً خطيرةً طوال حياتهم نتيجةً لتفشّي الجوع والنّقص الحادّ جدًا في العناصر الغذائية الضرورية للحياة والتي توفّر للأطفال بالذات القدرة على النموّ!.
في الواقع، نحن أمام ظاهرةٍ شديدة الانحطاط والقسوة، بل والنّدرة في التاريخ الإنساني كلّه، تتوسّل كلّ الأدوات والوسائل العنفيّة غير المشروعة لتحقيق هدفٍ وحيدٍ ألا وهو إبادة شعبٍ بأكمله من دون أي حدود أو قيود قانونية أو إنسانية أو أخلاقية.
إذن لسنا أمام ظاهرة هوجاء موغلة في العنف الوحشي وتحلّق بعيدًا في أعلى سماوات الأذى وإزهاق أرواح البشر، لكنّنا أمام "دولة" جرى تصنيعها إمبرياليًا لكي تكون أداةً للقتل وليس مجرّد سارقة وطن من شعبه، ولهذا هي لا ينطبق عليها (دولة وجيش ومجتمع أيضًا) ما ينطبق على جماعاتٍ إرهابيةٍ لا حصْر لها عرفها ويعرفها بشر الدنيا، تستخدم العنف القاسي لتحقيق غاياتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ معيّنة، إذ هي جماعات تعتنق أفكارًا وعقائد وإيديولوجيات أغلبها منحرف، تسوّغ لها استعمال العنف طريقًا لتحقيق أهدافها التي قد يكون بعضها نبيلًا فعلًا لكنّها تتوسّل أداةً سيّئة.
هنا يتبدّى هذا الفارق الهائل والجوهري بين جماعات الإرهاب العادية وبين الجماعة الصهيونية في طورها الحالي خصوصًا... كيف؟!
الأمر ليس مجرّد "بندقية عمياء" وإنّما محض إجرام جنونيّ
الإجابة أنّ الكِيان الصهيوني وجيشه المنحطّ لا ينطلقان في ممارستهما الوحشية من أي غايةٍ مشروعةٍ سوى سرقة ما تبقّى من أرض فلسطين، بل وأوطان أخرى، وفرض الهيمنة على المنطقة بأسرها خدمةً لأهداف قوى إمبريالية تتقاطع مع أهداف المشروع العنصري الصهيوني.
يعني باختصار، الأمر ليس مجرّد "بندقيةٍ عمياء" في يد عناصر في جماعةٍ تتوسّل العنف المنفلت لتحقّق أهدافًا ربّما مشروعة، وإنّما الأمر محض إجرام جنونيّ هدفًا ووسائل معًا.
وأُعطي من إبداعات الأدب مثالًا ونموذجًا يوضح هذا الفارق الجوهري بين أخلاقيّات بعض الإرهابيين النبلاء وبين الصهاينة وحكومتهم وجيشهم.
فأمّا النّموذج فقد صاغه بروعةٍ الأديب الفرنسي الشهير والحائز على نوبل في الأدب البير كامو (1960 ـ 1913)، إذ عرض في مسرحيته "العادلون" نموذجًا لشابٍ ينطبق عليه حقًا وصف الإرهابي النبيل.
تدور أحداث المسرحية في روسيا القيصرية مطلع القرن الماضي، أمّا أبطالها فهم الشابان إيفان واستيبان، وفتاة تدعى دورا، هؤلاء تمّ تكليفهم من قيادة منظمةٍ ثوريةٍ فوضويةٍ ينخرطون في عضويتها بمهمة اغتيال دوق يدعى سيرج.
تبدأ المسرحية بحوارٍ تمهيديّ يدور بين هؤلاء الثلاثة يكشف دوافعهم المختلفة للانخراط في هذه المنظمة، إذ يقول إيفان إنّه اختار العمل الثوري "لأنني أحب الحياة"، غير أنّ استيبان يردّ عليه معترفًا بأنّه لا يحب الحياة "بل أحب العدالة وأراها أسمى من الحياة بكثير"، وعندما يأتي دور البوح على "دورا" تؤكّد على ما قاله الأخير وتزيد واصفةً حالها وحال رفاقها: "إنّنا قوم عادلون ولهذا نحن محكومون بأن نكون دائمًا أكبر من ذواتنا ومتعالين على عواطفنا".
الفارق مهول بين إرهابيين نُبلاء انحرفوا بالوسيلة وبين مجرمين غاياتهم تتّسق مع وسائلهم الوحشيّة
بعد هذا الحوار تنتقل بنا المسرحية إلى حيث يكمن الشباب الثلاثة على طريقٍ سيمرّ منه موكب الدوق، وفيما يظهر إيفان متخذًا وضع الاستعداد لإلقاء قنبلةٍ على الموكب يكون "استيبان" و"دورا" في الخلفيّة يتأهبان لحماية ظهره أثناء تنفيذ العملية... لكن في اللحظة التي تلوح فيها عربة الدوق وهي تتهادى على الطريق ثم تمرّ فعلًا أمام إيفان، فإنّ هذا الأخير يفاجئ رفيقيه بأنّه لم يُحرّك ساكنًا ولم يقذف القنبلة على الموكب... لماذا؟!
يسأله استيبان ودورا بدهشة وغضب، فيردّ عليهما بأنّ الدوق سيرج كان يصطحب معه أولاد أخيه الأطفال، و"لا قضيّة في الدنيا تبرّر قتل أطفال أبرياء... إنّ قتلهم سيحوّلنا من ثوار إلى مجرمين!!".
هكذا قال إيفان... وهكذا يتجلّى الفارق المهول بين إرهابيين نُبلاء غايتهم شريفة لكنهم انحرفوا بالوسيلة فقط، وبين مجرمين غاياتهم تتّسق انحطاطًا مع وسائلهم الوحشيّة.
(خاص "عروبة 22")