منذ أكثر من عقد تراجعت السلطات في تونس عن دعم البنية التحتية للمرافق الصحية العمومية ومهدت الطريق لتغول المصحات الخاصة رغم إدراكها أنّ عموم التونسيين غير قادرين على تحمّل تكاليف العلاج في هذه المستشفيات.
"حصلتُ على موعد في إحدى مستشفيات العاصمة للإقامة وإجراء عملية جراحية بسبب إصابتي بمرض السرطان. توجهتُ منذ الفجر للمستشفى حيث كانت قاعة الانتظار تغص بالمرضى القادمين من كل الجهات. قاموا بتسجيلنا وطلبوا أن ننتظر حتى الساعة 11 صباحًا ليأتي الطبيب ويعايننا، ولكن الطبيب تركنا ننتظر حتى الثانية والنصف بعد الظهر.. رغم ذلك وبعد كل هذه المشقة أخبرونني أنني لن أجري العملية وطلبوا مني العودة للمنزل على أن يتصلوا بي لاحقًا".
انهارت "مريم" وهي تروي لـ"عروبة 22" كيف قوبلت بالسخرية حين أصرّت على لقاء الطبيب وطلب توضيح لتأجيل عمليّتها: "في البداية قال لي أحد الممرضين يضع الدكتور البرنامج الذي يريد سواء قبلتم أو لم تقبلوا به، لكنني أصريت على لقاء الطبيب ودخلت إليه باكية فكان جوابه هل تريدين الإقامة بالمستشفى لتأكلي وتشربي مجانًا؟ فوجئت ولكن ساقي النازفة وأنا أقول أنظر يا دكتور لقد شربت الدواء ورغم ذلك النزيف لا يتوقف، فرد ببرود "وما المشكل؟". ثم دخلت طبيبة وقالت بسخط وسخرية "ما بها هذه تبكي؟". كنتُ أريد أن أصرخ وأقول لها هذه التي تزعجك ببكائها استلفت 60 دينارًا (20 دولارًا) كي تستقل سيارات الأجرة وتقوم بكل الإجراءات التي طلبتموها حتى أكون جاهزة اليوم للعملية، هذه التي تبكي بمرارة فقدت الوعي وهي في طريقها إلى الطابق الثالث للقاء الطبيب دون أن يساعدها لا طبيب ولا ممرّض، هذه التي تبكي شابة متزوجة منذ سنة فقط ولكنها مهددة بفقدان حلم الأمومة بسبب مرض خبيث ورغم ذلك أنتم لا تشعرون بحالها".
حالة "مريم" تمثّل في الحقيقة معاناة آلاف المرضى التونسيين الذين فضلًا عن إغلاق أبواب المستشفيات العمومية في وجوههم في مناسبات كثيرة وتأخر علاجهم أو انعدامه رغم دقة وضعهم الصحية، ويواجهون سوء المعاملة من أطباء أو ممرضين، فضلًا عن اضطرار الكثير من المرضى لدفع الرشاوى لهذا وذاك من العاملين في المستشفى للحصول على موعد قريب سواء للقاء الطبيب مجددًا أو لإجراء بعض التحاليل، فيما يضطر المرضى غير القادرين على الدفع لانتظار مواعيدهم البعيدة حتى وإن كانت حالاتهم الصحية لا تحتمل الانتظار.
هذا الوضع هو جزء من مشاكل المستشفيات العمومية في تونس والتي تتفاقم سنويًا في ظل تراخي الدولة وعدم توجهها لإصلاح المنظومة الصحية المنهارة في البلاد وتعبيدها الطريق أمام المستشفيات الخاصة باهظة الثمن والعصية على غالبية التونسيين.
وتتوزع المنظومة الصحية العمومية في تونس على ثلاثة خطوط أساسية، الخط الأول يتمثل في مراكز الصحة الأساسية التي يبلغ عددها 2113 مركزًا إلى جانب المستشفيات المحلية البالغ عددها 110 مستشفيات حتى سنة 2021. أما الخط الثاني فيتمثل في 35 مستشفى جهويًا موزعة على كل محافظات البلاد الـ24. فيما يتكوّن الخط الثالث من 22 مستشفى جامعيًا يتركز جلها في تونس العاصمة التي تضم بمفردها 12 مستشفى جامعيًا، فيما تتوزع بقية المستشفيات الجامعية على محافظات منوبة وسوسة وصفاقس وأريانة وبن عروس والمنستير وزغوان.
تمثل الموازنات المخصصة لوزارة الصحة 5.23 بالمئة من إجمالي الميزانية العامة للدولة سنة 2023، والتي سيتم توجيه 87.6 بالمئة منها إلى نفقات التصرف والتسيير فيما لن تتجاوز النفقات المخصصة لتطوير البنية التحتية والإصلاح سوى 12.4 بالمئة من ميزانية وزارة الصحة. وأدى التقشف الذي تمارسه مختلف الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من عقد لضرب البنية التحتية الصحية التي لم تشهد أي تطور يُذكر بل إنّ بعضها تراجع مستواه. فحسب أرقام رسمية لم يتم إنشاء أي مستشفى عمومي منذ اندلاع الثورة نهاية 2010، وظل عدد المستشفىيات 23 موجهة لما يزيد عن 12 مليون ساكن. وتراجع عدد المعاهد والمراكز الصحية المختصة من 21 منشأة سنة 2008 إلى 11 مركزًا سنة 2021، كما انخفض المستشفيات الجهوية من 33 إلى 31 مستشفى.
في الواقع، التراخي عن دعم الصحة العمومية يتم في إطار سياسة تتبعها الدولة من أجل تعبيد الطريق أمام القطاع الخاص للاستحواذ على المشاريع الكبرى للقطاع الصحي. وقد تم الكشف عن هذا المخطط منذ سنة 2016 وتحديدًا خلال الندوة الدولية لدعم الاستثمار والتي أعلن فيها عن أنّ القطاع الخاص سيستحوذ على 64.25 بالمئة من المشاريع الاستثمارية المستقبلية في القطاع الصحي بقيمة 4 مليارات دولار في حين تكتفي الدولة بخمسة مشاريع لتحسين المستشفيات الجهوية وشراء يعض التجهيزات الطبية في بعض المؤسسات الصحية العمومية فقط. وفعلًا انعكس ذلك على مستوى نمو المرافق الصحية الخاصة التي ارتفعت بنسبة 28 بالمئة بين 2010 و2018.
وفيما تتراجع الدولة عن دعم المستشفيات العمومية ولا تُبدي أي نية أو برامج لإصلاح القطاع المتجه للانهيار، يستغل القطاع الخاص هذا الوضع عبر توفير تجهيزات حديثة وباهظة الثمن وتقديم خدمات بمستويات عالية وتكاليف أعلى تستقطب أساسًا مواطني دول الجوار كليبيا والجزائر أكثر من عموم التونسيين الذين لا يستطيعون مجاراة تكاليف المصحات الخاصة.
وتستحوذ اليوم المصحات الخاصة على 85 بالمئة من أجهزة الكشف بالرنين المغناطيسي و73 بالمئة من الماسحات الضوئية (سكانر) و79 بالمئة من قاعات القسطرة القلبية. وهذه الأرقام تعود لسنة 2017 أي أنّ أيّ تحديث جديد سيُظهر ارتفاع النسبة في ظل استمرار تحجج الإطار الطبي بالمستشفيات العمومية بهذا العطب وذاك في أغلب التجهيزات الطبية ما يضطر المرضى للتوجه للقطاع الخاص خاصة في الحالات المستعجلة.
وفي خضم هذا الوضع بات الحق في الصحة بتونس حصرًا لمن امتلك المال لتحمّل تكاليف المصحات والعيادات الخاصة، أما المستشفيات العمومية فهي تتحوّل تدريجيًا من مكان لعلاج المريض إلى مكان لتعقيد وضعه الصحّي.
(خاص "عروبة 22")