من الصعب التصديق أنّ الحوثيين "أنصار الله" يسيطرون، منذ 10 سنوات، على جزء من اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء. بات هذا الأمر واقعاً لا مفرّ من التعاطي معه، وهو يعبّر، في جانب منه، عن فشل أميركي يعود إلى استخفاف تاريخي بنمو الظاهرة الحوثية في اليمن، وبالرابط العضوي بينها وبين "الحرس الثوري" الإيراني.
كذلك، يعبّر الفشل عن مدى قدرة إيران على الاستفادة من كلّ ما يقوم به "الإخوان المسلمون" في المنطقة العربيّة، وتوظيف ذلك في خدمة أهدافها. يظلّ اليمن، حيث نفّذ "الإخوان" انقلاباً على علي عبدالله صالح، أفضل مثال على الدهاء الإيراني واستغلال الفرص المتاحة لتحقيق اختراق في بلدان عربيّة مهمّة، مثل العراق وسوريا ولبنان أيضاً... بهدف تدميرها من داخل.
صار هناك، بكل بساطة، كيان سياسي يشكّل موطئ قدم لإيران في شبه الجزيرة العربيّة. تحوّل هذا الكيان السياسي إلى قاعدة عسكريّة إيرانيّة تُستخدم في إحدى الحروب التي تشنّها "الجمهوريّة الإسلاميّة" على هامش حرب غزّة، من أجل أن تثبت للعالم، خصوصاً للولايات المتحدة، أنّها القوة المهيمنة في المنطقة، وصاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فيها.
في مثل هذه الأيّام من عام 2014، كان الحوثيون يُطبقون على صنعاء بعدما اجتاحوا محافظة عمران، حيث كان يفترض أن يقف ما بقي من الجيش اليمني في وجههم. قضوا على نفوذ آل الأحمر، زعماء حاشد، القبيلة اليمنية الكبيرة المتماسكة التي راحت، شيئاً فشيئاً، تفقد من أهميتها مع وفاة زعيمها الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في 29 كانون الأوّل (ديسمبر) 2007. بعد ذلك، قضى الحوثيون على اللواء 310 بقيادة العميد حميد القشيبي الذي كان يُعتبر من بين أفضل ألوية الجيش اليمني تسليحاً، والذي كان يُعتبر موالياً لحزب "التجمع اليمني للإصلاح"، واجهة "الإخوان المسلمين". حصل ذلك بمباركة عبد ربّه منصور هادي، الرئيس الانتقالي وقتذاك.
حرص عبد ربّه على زيارة مقر اللواء 310 مباشرة بعد الهزيمة التي لحقت به على يد "جماعة أنصار الله" معتقداً أنّه سيكون قادراً على استمالة هؤلاء والحصول على دعمهم لتثبيت وضعه الداخلي المهتزّ. لم يدرك أن الحوثيين، بتخطيط إيراني، يمتلكون حسابات خاصة بهم لم تكن وليدة البارحة بمقدار ما هي وليدة إطاحة نظام علي عبد الله صالح وصولاً إلى استقالته في شباط (فبراير) 2012، وتسليم الرئاسة إلى نائبه الذي كرّس كلّ وقته للانتقام منه ومن أفراد عائلته ومن كبار مساعديه.
منذ ما قبل الانقلاب على علي عبد الله صالح، الذي دخل في السنوات العشر الأخيرة من حكمه مرحلة تغليب المزاج على العقل والتعقّل، تميّزت سياسة أميركا في اليمن بنوع من الاستخفاف بالخطر الحوثي، الذي هو في الأساس خطر إيراني. كان التركيز الأميركي على "القاعدة" التي لا تقلّ خطورة عن الحركة الحوثية بنسختها الأخيرة، أي منذ خروج علي عبد الله صالح من السلطة وصولاً إلى سقوط صنعاء ومعها ميناء الحديدة على البحر الأحمر. ركّزت السياسة الأميركية، خصوصاً منذ تشرين الأوّل (أكتوبر) 2000 تاريخ تفجير المدمّرة "كول" في ميناء عدن بأوامر مباشرة من الإرهابي أسامة بن لادن، على نشاط "القاعدة" والعلاقة بينها وبين مجموعات سياسية أو أمنيّة يمنيّة.
منذ تفجير "كول"، وصولاً إلى ما يمارسه الحوثيون في أيامنا هذه في ما يخصّ تعطيل الملاحة في البحر الأحمر، تميّزت السياسة الأميركية تجاه هؤلاء بالكثير من التبسيط، حتى لا نقول بالغباء. لم تدرك أميركا خطورة الحوثيين، حتى عندما دخلوا في مواجهة مباشرة مع علي عبد الله صالح في خريف عام 2004، أو حتّى عندما خاضوا 6 حروب معه ثم ما لبثوا أن قتلوه في أواخر عام 2017.
كان للتهاون الأميركي مع الحوثيين دوره في وصول الحوثيين إلى صنعاء وحصولهم على مباركة من الأمم المتحدة. سيظل يوم 14 ايلول (سبتمبر) 2014 محطّة محورية في التاريخ الحديث لليمن، تماماً مثل محطة "ثورة 26 سبتمبر" التي أنهت النظام الإمامي، أو 22 أيار (مايو) 1990 يوم تحقيق الوحدة، أو حرب صيف عام 1994 التي قضت على حلم عودة إحياء دولة الجنوب. في 14 أيلول 2014، قام نظام جديد على جزء من الأرض اليمنية، نظامٌ تسيطر عليه "الجمهوريّة الإسلاميّة" ليس معروفاً إلى أين سيأخذ المقيمين في المناطق التي يسيطر عليها، باستثناء أنّه قضى في 10 سنوات على أكثر من جيل من المراهقين اليمنيين، عوّدهم على حمل السلاح، والتعلّق بخرافات دينيّة بدلاً من الذهاب إلى المدرسة، ومنها إلى الجامعة.
تتحمّل أميركا جزءاً كبيراً من المسؤولية، كذلك حركة "الإخوان المسلمين" التي انقلبت على نظام علي عبد الله صالح من دون إدراك الجريمة التي ترتكبها. هذا لا يعني أن الرئيس اليمني السابق كان منزهاً عن الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها. لكنّ اللافت أن كلّ ما فعله "الإخوان"، الذين ما زالوا يسيرون على نهج عرقلة عمل "الشرعيّة الجديدة" برئاسة الدكتور رشاد العليمي، صبّ في خدمة الحوثيين، أي إيران. يحدث ذلك كلّه وسط وقوف الولايات المتحدة موقف المتفرّج بعدما استخفت بالموقع الاستراتيجي لليمن، بمعنى أن يتحول شمال اليمن إلى قاعدة عسكرية إيرانيّة يتألف جيشها، في معظمه، من مجموعة مراهقين يحملون "الكلاشنيكوف"، ولا يعرفون شيئاً عن اليمن.
يبقى سؤال في غاية البساطة يمكن طرحه مع مرور 10 سنوات على قيام نظام تابع للحوثيين في صنعاء: هل استطاع هؤلاء القضاء نهائياً على التركيبة القبليّة في اليمن، أم لا يزال هناك دور للقبيلة، سيظهر يوماً ما، في مجتمع يصعب تغييره بالسهولة التي تظنها إيران؟
(النهار العربي)