مراجعات

"النهضوي الأخير".. يكشف نضال طه حسين العروبي

ماذا تبقى من سيرة طه حسين (1889- 1973م) لم نعرفه بعد؟ فالرجل مالئ الدنيا وشاغل الناس على مدار القرن العشرين، والحديث عنه لا ينقطع، فالمطابع تدفع بالكثير عنه اتفاقًا واختلافًا، لكن الدهشة تأخذنا عندما نقف على دراسة تميط اللثام عن جوانب من شخصية وتراث الرجل التي كانت مطموسة وغير معروفة، وبالتالي تثبت أنّ رؤيتنا لعميد الأدب العربي قاصرة دون أن ندري.

من هنا تأتي أهمية كتاب "النهضوي الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات في مصر"، للمؤرخ المصري حسام أحمد، الأستاذ المساعد في تاريخ الشرق الأوسط الحديث بجامعة كارلتون الكندية.

صدرت الترجمة العربية لكتاب "النهضوي الأخير"، بالتزامن مع الذكرى الخمسين لوفاة عميد الأدب العربي عام 2023، وصدر عن مشروع "كلمة" الإماراتي، بترجمة مقتدرة وعلى قدر قيمة الكتاب للمترجم موسى الحالول. ويقدّم الكتاب سيرة غير مألوفة لشخصية طه حسين، عبر مفهوم "السيرة الاجتماعية"، وهي منهجية تستخدم سيرة شخصية معيّنة كعدسة لدراسة وتحليل المؤسسات التي عمل بها، وكيفية نظره لدور هذه المؤسسات، وكيف عمل على تطويرها، وتنفيذ أفكاره من خلالها، لنكتشف صورة مختلفة لطه حسين كمفكر عملي، بحسب وصف حسام أحمد، استطاع العمل على تطبيق أفكاره النظرية من خلال مساره الإداري وتوليه عددًا من الوظائف الحكومية، وفي ذروتها تولي حقيبة وزارة المعارف.

رأى طه حسين أنّ استخدام الثقافة كأداة لتقوية العلاقات بين الأقطار العربية الوسيلة الأفضل لنشر ثقافة مقاومة

على عكس الهجوم الذي يشنّه بعض خصوم طه حسين، تظهر السيرة الاجتماعية والوظيفية التي يقوم بها حسام أحمد استنادًا إلى الأرشيف غير المستخدم من قبل، وجهًا آخر لعميد الأدب العربي، إذ لا يتوقف كتاب "النهضوي الأخير" عند اجتزاء بعض خصوم العميد لما جاء في كتاب "مستقبل الثقافة المصرية"، للقول إنه انسحق أمام الثقافة الغربية وتحديدًا الفرنسية، وأنه يبشر بانسلاخ المصريين عن ثقافتهم العربية وإلحاقها بالثقافة الغربية من مرتبة التابع، فهنا يفند حسام أحمد هذه الاتهامات بالكشف عن الوجه العروبي في مشروع طه حسين، والذي يدفع المؤلف للقول إنه في هذه المواقف يمكن أن نجد جذور السياسات الناصرية في شقها العروبي.

الصورة الجديدة التي يقدّمها الكتاب تتلخص أساسًا في كشف أبعاد مشروع طه حسين الذي يجمع بين التراث العربي الإسلامي وآخر ما وصلت له الحضارة الأوروبية وهضمه في تجربة عربية حداثية، واستخدم في ذلك المؤسسات التعليمية وفي مقدّمتها الجامعة المصرية (جامعة القاهرة) التي أراد لها أن تكون النموذج الذي يعمم في العالم العربي.

هذه الروح التي ميّزت طه حسين، دفعت به لخوض غمار معركة مع الفرنسيين في ساحة المغرب العربي، فخلال توليه منصب وزير المعارف (1950-1952)، رأى أنّ رسالة مصر تتمثل في الارتقاء بالثقافة العربية ومساعدة شعوب المنطقة في ترقية الحضارة العربية، لذا بدأ في التفكير في إنشاء معاهد مصرية للدراسات العربية والإسلامية في طنجة والرباط والجزائر وتونس، الأمر الذي رفضته السلطات الفرنسية، التي لم ترغب في زيادة النفوذ المصري، بصورة تعزز الانتماء العروبي عند شعوب المغرب العربي.

ونتيجة المماطلة الفرنسية ورفضها الشديد لتمدد ثقافي مصري عربي في بلدان المغرب، رد طه حسين بصفته وزير المعارف بتعليق الحفريات الأثرية الفرنسية والتهديد باتخاذ إجراءات صارمة بحق المؤسسات الثقافية الفرنسية العاملة في مصر، تطبيقًا لمبدأ المعاملة بالمثل، المدهش أنّ بعض هذه الإجراءات ستلجأ لتطبيقها الحكومة المصرية في الزمن الناصري في أعقاب أزمة العدوان الثلاثي.

واستخدم طه حسين استراتيجية قائمة على فهم عميق لملابسات العصر الاستعماري، وميزان القوى في مطلع خمسينيات القرن العشرين، إذ رأى أنّ استخدام الثقافة كأداة لتقوية العلاقات بين الأقطار العربية الوسيلة الأفضل لنشر ثقافة مقاومة، عبر استقبال الطلاب العرب في المدارس والجامعات المصرية، والعمل لبناء مدارس مصرية في هذه البلدان من أجل توفير "ثقافة عربية شرقية"، مع التأكيد أنّ هذه المدارس "معاهد ينشأ فيها الوطنيون لأوطانهم لا لمصر".

لذا تجنب طه حسين النشاط السياسي العلني، لأنه رأى أنّ مثل هذه المواقف ستجد فيها سلطات الاحتلال الفرنسي فرصة لمنع إقامة روابط ثقافية عربية مع بلدان المغرب العربي، إذ كان واضحًا من خلال عرض حسام أحمد لوثائق غير مستخدمة من قبل، أنه "كان شديد الوعي بالأثر السياسي للمعاهد الثقافية التي كان يحاول بناءها"، وهي الرسالة التي التقطتها سلطات الاحتلال الفرنسي فرفضت في مكاتباتها الرسمية تعاظم الدور المصري لنشر الثقافة العربية في بلدان المغرب، ووقفت بالمرصاد لمنع طه حسين من تنفيذ أهدافه، ما دفعه للرد بإجراءات عنيفة ضد البعثات الفرنسية في مصر، ولم يمنعه من اتخاذ إجراءات أكثر عنفًا إلا إقالة الحكومة إثر حريق القاهرة (يناير 1952).

يركز حسام أحمد على تعاطي طه حسين مع سياسة مصر الخارجية منذ ثورة يوليو/تموز 1952، إذ اعتبرها العميد تمثّل للعرب النموذج، مثلما مثّلت الثورة الفرنسية للغرب، وكتب العديد من المقالات المؤيدة لحقوق العرب في الحرية، ودافع عن السياسة المصرية الخارجية المؤيدة لحصول الشعوب العربية على الاستقلال، وإن توقع أن تؤدي هذه السياسة إلى صدام مسلّح مع الغرب، وهو ما حدث بالفعل في صورة العدوان الثلاثي على مصر (1956).

أحد أوجه النضال عند طه حسين الذي يسلط عليه حسام أحمد، يتعلق بالنضال في سبيل اللغة العربية، إذ رفض بإصرار استخدام اللغة المحكية أو كتابة العربية بحروف لاتينية، لكنه في الوقت نفسه طالب بتيسير قواعد النحو المعقدة وجعلها أسهل، مع اختيار المدرسين القادرين على تدريسها، وأنّ رفض هذا الإصلاح في اللغة سيؤدي باللغة أن تتحول إلى لغة دينية لا يحسنها إلا رجال الدين على حد وصفه. لذا كان إصراره ودفاعه عن كلية الآداب باعتبارها المكان الذي تدرس فيه اللغة لذاتها، لا باعتبارها وسيلة لإتقان الفقه كما هو حال الأزهر في زمنه.

يعيد الكتاب الاعتبار لفكر عميد الأدب العربي باعتباره يدمج بين التنظير والتطبيق والعمل على تعزيز الروابط العربية

إنّ كتاب "النهضوي الأخير" هو إعادة اكتشاف لجزء مظلم من مسيرة طه حسين النهضوية، بصورة لم تكن معروفة لقرّاء عميد الأدب العربي، عبر استخدام وثائق جديدة من الأرشيف المصري والفرنسي وأوراق طه حسين الخاصة.

يعيد الكتاب الاعتبار لفكر عميد الأدب العربي باعتباره مفكرًا عمليًا يدمج بين التنظير والتطبيق، والعمل على النهوض بالثقافة العربية بالاعتناء بالتراث وجمعه ونشره، والعمل على تحويل الثقافة إلى رأس حربة في مشروع الاستقلال العربي من ناحية، وتعزيز الروابط العربية من ناحية أخرى، وهي أفكار جديرة بالاستعادة في هذه المرحلة التي يمر بها العرب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن