لقد نجح مجلس التعاون الخليجي في إنشاء بعض الهياكل الاقتصادية المشتركة، مثل الاتحاد الجمركي والسوق المشتركة، ما ساهم في تعزيز التجارة البينية بين الدول الأعضاء وزيادة الاستثمارات في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، طبقت دول الخليج بعض السياسات التي تهدف إلى تنسيق السياسات النقدية والمالية، وإن كانت هذه الجهود لم تؤدِ بعد إلى إنشاء عملة موحّدة. إلا أنّ التحديات السياسية والاقتصادية لا تزال تعوق تحقيق تكامل اقتصادي كامل بين دول المجلس. فالاختلافات في السياسات الاقتصادية، والخلافات السياسية بين بعض الدول الأعضاء، تعرقل جهود التعاون الاقتصادي على نطاق أوسع.
إضافة إلى التحديات الاقتصادية والسياسية، تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحديات تتعلق بالتكيّف مع الاقتصاد العالمي المتغيّر. فالدول الأعضاء تعتمد في شكل كبير على النفط كمصدر رئيسي للدخل، وهو ما يجعلها عرضة إلى التقلّبات في أسعار السلعة على المستوى العالمي. لذلك، تعمل هذه الدول لتنويع اقتصاداتها من خلال تعزيز القطاعات غير النفطية، مثل الصناعة والخدمات المالية. ومع وجود استراتيجيات بعيدة الأجل تستهدف زيادة الاستثمار في هذه القطاعات، تعزز دول المجلس قدراتها الاقتصادية وتنافسيتها على المستوى العالمي.
يحتاج التعاون الاقتصادي العربي إلى إرادة سياسية قوية وخطط اقتصادية مدروسة تستهدف مواجهة التحديات
على الرغم من النجاحات التي حققتها تجربة مجلس التعاون الخليجي، لا تزال التحديات قائمة. أحد هذه التحديات هو التأخر في تحقيق تكامل نقدي كامل بين الدول الأعضاء. لقد أبدت بعض الدول رغبتها في الاحتفاظ بسياسات نقدية مستقلة، لكن خبراء كثيرين يرون أنّ إنشاء عملة موحّدة بين دول المجلس يمكن أن يعزّز الاستقرار المالي ويزيد من قوة التفاوض الاقتصادي لهذه الدول على المستوى العالمي. إضافة إلى ذلك، يشير الخبراء إلى أهمية تعزيز التكامل في مجالات أخرى مثل الكهرباء والمياه، وهي مجالات حيوية بالنسبة إلى دول الخليج التي تعتمد في شكل كبير على هذه الموارد.
ولا بد هنا من مقارنة التجربة الخليجية بتجارب عربية أخرى لاقت نجاحًا أقل لأسباب معظمها سياسي. ربما تتمثل أهم التجارب الأخرى في اتحاد المغرب العربي الذي تأسس عام 1989 بين الجمهورية الإسلامية الموريتانية، والمملكة المغربية، والجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، والجمهورية التونسية، ودولة ليبيا. كان الهدف تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي بين الدول الأعضاء وتحقيق التكامل الاقتصادي والاندماج الإقليمي، وتطوير التعاون في مجالات الأمن والتنمية. ورغم التطلعات الكبيرة، لم يحقق الاتحاد نجاحًا ملموسًا بسبب الخلافات السياسية بين دوله، ولا سيما النزاع بين الرباط والجزائر حول قضية الصحراء الغربية.
ومنذ إنشائه، تعطلت اجتماعاته الرسمية في شكل متكرر، ما يعوق تنفيذ المشاريع المشتركة وتفعيل دوره كمنظمة إقليمية فاعلة. واليوم، يبقى الاتحاد كيانًا غير نشط إلى حد كبير، وذلك على رغم تطلعات شعوبه إلى التكامل. يقع مقر الأمانة العامة لاتحاد المغرب العربي في الرباط، ومقر مجلس الشورى في الجزائر، ومقر الهيئة القضائية في نواكشوط، ومقر المصرف المغاربي في تونس، ومقر كل من الأكاديمية المغربية وجامعة المغرب العربي في طرابلس. لكن هذه الهيئات التي لا تزال قائمة، ليس لها حاليًا أثر كبير في أرض الواقع، ولم تساهم مساهمة كبيرة في تذليل العقبات التي تحول دون التكامل الاقتصادي والتعاون الأمني والسياسي، على الرغم من تحسن العلاقات الثنائية على أكثر من صعيد بين الدول الأعضاء، ولا سيما منذ أحداث "الربيع العربي".
حين تتعزّز المصالح المشتركة يسهل حل الخلافات السياسية
في النهاية، يمكن القول إنّ التكامل الاقتصادي يشكل تحديًا وفرصةً في الوقت ذاته. ففي حين يواجه العالم العربي تحديات كبيرة تعوق تحقيق تكامل اقتصادي كامل، يمكنه الاستفادة من تجارب مثل الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا. يحتاج التعاون الاقتصادي العربي إلى إرادة سياسية قوية وخطط اقتصادية مدروسة تستهدف مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية. ومن خلال تعزيز التعاون في مجالات مثل التجارة، والزراعة، والطاقة، والبحث العلمي، يمكن للدول العربية تحقيق تكامل اقتصادي فاعل يساهم في تحسين مستويات المعيشة وتحقيق التنمية المستدامة. وحين تتعزّز المصالح المشتركة، يسهل حل الخلافات السياسية إذ يصبح أكثر إلحاحًا.
وتظل تجربة مجلس التعاون الخليجي نموذجًا يُحتذَى به في العالم العربي. فرغم التحديات التي تواجه المجلس، تُمثّل الخطوات التي اتخذها في مجال التكامل الاقتصادي بدايةً واعدةً لتحقيق تكامل اقتصادي أوسع في المنطقة.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")