سيدة بيضاء، شعرها أصفر وعيونها زرقاء ولم يسبق لها السفر خارج الولايات المتحدة، بل حتى خارج حدود ولاية نيويورك لزيارة ولاية أمريكية أخرى في هذه الدولة القارة رغم أنها كانت في بداية العقد الخامس من العمر. ظنت السيدة الأمريكية أنني غالبًا من أصول لاتينية بسبب لون بشرتي البني، ولم يدر بخلدها أنني مصري ينحدر من دولة عربية.
ولذلك شعرت السيدة بأريحية وهي تشكو مر الشكوى كيف أنّ وسط مدينة نيويورك وحي مانهاتن قد تدهور به الحال تمامًا ولم يعد كما كان بسبب الانتشار المفزع في الشوارع لعربات بيع الطعام الشرق الأوسطي Middle Eastern food. قالت: "أشعر أنّ مانهاتن أصبح رائحتها كباب.. أفتقد رائحة شطائر الهوت دوج والبرجر التي كنت أعرفها".
طبعًا هذه الرائحة كان يسيل لها لعابي وتثير في نفسي شجون الحنين للوطن خاصة إذا كان صاحب عربة الطعام الصغيرة مصريًا يمارس مهامه بإتقان على نغمات أغنية للسيدة أم كلثوم أو العظيمة فيروز. ولكن أعتقد أنّ ما كان يثير استياء هذه السيدة الأمريكية التقليدية أكثر من رائحة الكباب هو الطوابير الطويلة من الأمريكيين الراغبين في الحصول على الطعام العربي بتوابله ومذاقه القادم من العالم "الآخر" وابتعادهم عما تراه الطعام الأمريكي الأصلي من "برجر وهوت دوج".
تصريح ترامب عكس أسوأ ما في الولايات المتحدة من شعور بتفوّق العرق الأبيض مقابل هجوم المتوحشين البرابرة
تذكرت هذا الحوار بعد الفخ الذي سقط فيه ترامب طوعًا في مناظرته الأخيرة مع المرشحة الديمقراطية لخوض انتخابات الرئاسة كامالا هاريس عندما نجحت في استفزازه ودفعه لمهاجمتها بكل الطرق إلى درجة ترديده لإشاعة كاذبة مفادها أنّ المهاجرين إلى أمريكا من دولة هايتي الممزقة في مدنية سبرنجفيلد بولاية أوهايو يسرقون الكلاب والقطط والحيوانات الأليفة الخاصة بالسكان البيض المتحضرين المسالمين لكي يعدون بها وجبات طعامهم المفضلة.
وكانت هذه الإشاعة انتشرت بشكل محدود في مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا بين أنصار ترامب من اليمين، بما في ذلك مرشحه لمنصب نائب الرئيس جي دي فانس، الذين يعتبرون أنّ الديمقراطيين وإدارة بايدن-هاريس يتساهلون في مواجهة الهجرة غير الشرعية، بخاصة من أمريكا الوسطى واللاتينية، وهو ما يصفونه بـ"غزو" ممنهج لبلادهم وسعي من "الآخر" للقضاء على "نمط الحياة الأمريكية"، التي هي حياة البيض بالضرورة.
كان ترامب يكرر الاتهام المجنون بكل جدية وحماس "إنهم يأكلون القطط.. إنهم يأكلون الكلاب"، ليقدم لمنافسته أفضل هدية تمنتها من تلك المناظرة. وكان أفضل رد قدمته هاريس هو الضحك بشكل متواصل ولسان حالها أنها لا تستطيع تصديق أنه يردد بالفعل مثل هذا الكلام العبثي، ومهما بلغت درجة تشدده في مواجهة مشكلة الهجرة غير الشرعية وخططه لبناء حوائط وجدران تعزل الولايات المتحدة وتحميها من الغزو الخارجي من قبل من وصفهم ترامب بالمجرمين والمختلين عقليًا ومهرّبي المخدرات.
لكن الحقيقة هي أنه مهما بلغت درجة سعادة الديمقراطيين بأداء مرشحتهم هاريس في المناظرة واعتبار أنها حققت انتصارًا ساحقًا، وأنّ ترامب قد سقط عمليًا في فخ اتهامه للمهاجرين من هايتي بسرقة وطهي الكلاب والقطط، الذي تحوّل سريعًا إلى مصدر للسخرية، فإنّ أنصار المرشح الجمهوري والذين لا يمكن الاستهانة بأعدادهم وتأثيرهم سيصدقون غالبًا هذا الزعم، حتى لو لم يكن له أي أساس بسبب موقفهم من "الآخر" وخشيتهم الحقيقية من أنّ بلادهم تتعرض لموجات من الهجرة هدفها إنهاء نمط حياة أمريكا البيضاء كما يعرفونها.
في انتخابات العام 2020، حصل ترامب على أصوات ما يقترب من نحو 75 مليون أمريكي، مقابل 81 مليون صوّتوا لصالح الديمقراطي بايدن، وهو ما يعكس حالة الانقسام الحاد بين الأمريكيين أنفسهم بنسبة متساوية تقريبًا. بالطبع لا يمكن وصف كل أنصار ترامب بأنهم على الدرجة نفسها من العنصرية وكراهية "الآخر" والرعب من المهاجرين في بلد بناه المهاجرون من كافة دول العالم. ولكن ترامب بتصريحه التلقائي هذا عكس مشاعر ومخاوف أسوأ ما في الولايات المتحدة من شعور بتفوّق العرق الأبيض مقابل هجوم المتوحشين البرابرة القادمين من بقية أرجاء العالم.
قد يؤدي تصريح ترامب العنصري إلى فقدانه أصوات المهاجرين والأقليات لكنه لن يؤثر على ثقة أنصاره به ودعمهم له
وهؤلاء يكرهون كل الأغراب وغالبًا يعتبرون ما يتناولونه أحد معالم عدم تحضرهم وانعدام قدرتهم على الاندماج وقبول "نمط الحياة الأمريكي". فالهايتيون يأكلون الكلاب والقطط، ومعهم الصينيون والكوريون الذين يأكلون كل شيء، والإيطاليون الذين ما زالوا يتمسكون بأكل السباجيتي، والسود الذين يأكلون الدجاج المحمر وقطع البطيخ، والهنود الذين يستخدمون الكاري لطهي كل أنواع طعامهم، وبالطبع العرب الذين لوثوا رائحة شوارع مانهاتن بدخان الكباب والشاورما.
قد يؤدي تصريح ترامب العنصري بشأن أكل مهاجري هاييتي للكلاب والقطط إلى فقدانه أصوات المزيد من المهاجرين والأقليات، الذين سيتوجهون لدعم منافسته هاريس. ولكنه لن يؤثر بكل تأكيد على ثقة أنصاره به ودعمهم له ممن يرون أنّ الولايات المتحدة هي دولة يجب أن يحكمها البيض فقط. وبعد ما يرون أنه كارثة تولي أمريكي أسود لمنصب الرئاسة في العام 2008 في إشارة إلى باراك أوباما، فإنهم سيبذلون كل جهد ممكن، ويرددون كل أنواع الأكاذبب لمنع وصول أول رئيسة امرأة إلى البيت الأبيض.
(خاص "عروبة 22")