بصمات

ثنائية الصديق والعدو في الوطن العربي

يعيش الوطن العربي على تشرذم باطني غير مُعلن، إذ النزعات والنعرات السياسية والجغرافية لا زالت تلقي بظلالها على المستقبل القومي، فما تعيشه الدولة الوطنية من شعور بالاكتفاء والهوية الذاتية دفعها إلى إبرام تحالفات غير معهودة، ترسم حدودًا خارج المأمول القومي، بل وقد تزكي الصراعات بين بعض الدول العربية.

ثنائية الصديق والعدو في الوطن العربي

هذا التوجه الذي يبدو ظاهريًا غير مقبول، هو تتويجٌ لسياسة الدولة الوطنية الراغبة في تحقيق استقرارها وأمنها الداخلي، ولو على حساب المطلب القومي، كما يعتبر ردًّا سياسيًا على تعاظم هذه النزاعات وتضخمها، ما دام أنّ النعرات السياسية التي تهدّد استقرارها محركها الدول الإخوة المشكّلة للكل القومي، مما يجعلنا أمام استبعاد ثنائية الأخ/الأجنبي التي يتم الترويج لها ظاهريًا في المجال السياسي، والانفتاح بالمقابل على مفهوم الصديق والعدو.

معلوم أنّ مفهوم الصديق والعدو بزغ خلال القرن السابع عشر في السياق التاريخي الغربي صفة أو ميزة سياسية، حسب لوسيان جوم (Lucien Jaume)، تمامًا مثل أنّ الحرب هي استمرار لفعل سياسي عبر وسائل أخرى، فننفتح على مفهوم السياسة بما هي مجالٌ للقوة والسيطرة حتى في غياب الحرب، لأنّ جوهر المفهوم يتأسّس على الصراع بالدرجة الأولى.

توسيع دائرة التحالفات خارج المنطق القومي ضرورة ظرفية تمنح الدولة الوطنية بعض المنافذ لتوسيع مصالحها

نجد كذلك الفيلسوف الألماني كارل شميث يُقدم تمييزًا لمفهومي العدو والصديق، والذي قدمه في كتابه "مفهوم السياسي"، فالمحدّد الذي يرسم مفهوم السياسة هو التمييز ما بين الصديق والعدو، فهذا الأخير لا يتم استحضاره بالمعنى التقليدي المستمد من المجابهة أو المواجهة المسلحة القاتلة، كما لا يُحدد وفق المنافسة الاقتصادية أو التجارية، إذ قد يكون نافعًا لإبرام تحالفات اقتصادية وتجارية معه، إنّه الآخر الأجنبي، المشكّل للهوية المفهومية المؤسسة لمفردة "عدو" ما دام أنه يشكّل إمكانًا للصراع والمجابهة الدائمة داخليًا أو خارجيًا، والتي لا يمكن إيجاد حل لها. تجدر الإشارة إلى أنّ هذا التوجه في تحديد العدو في المضمار السياسي لا يخضع للمقاربة المعيارية الأخلاقية.

مؤكد أنّ تناول كارل شميث لمفهوم السياسية في السياق الغربي يختلف عن سياق التناول العربي، إلّا أنّ البنية المفهومية قد تصلح لقراءة الوضع العربي، خصوصًا فيما يرتبط بالتحالفات لبعض الدول العربية التي تبدو ظاهريًا هجينة وغير مقبولة وقد تهدّد المأمول القومي.

إنّ المتعارف عليه من وجهة قومية مشتركة تفرض الارتباط ببنية اصطلاحية مؤسَّسة على مفردة الاخوة/الأشقاء، ما يعني الارتباط الهوياتي الحتمي الذي يتجاوز منطق التحالفات التي قد تبرم وِفق منطق العلاقة مع الأجنبي/الآخر، بينما البنية الاصطلاحية المؤسِّسة لمفهومي العدو/الصديق تعكس سياق صراع قائم على تصنيف ضيق، فكيف يمكن قراءة ذلك؟.

واقع السياق العربي يثير وجود توجهات نحو تحالفات تبدو هجينة وغير مقبولة من منطق قومي، لكنها تشكّل الوجه الآخر للسياسة التي تحاول أن تمارسها الدولة الوطنية دون تنكرها العلني للهم القومي، لذلك يمكن القول إنّ توسيع دائرة التحالفات خارج المنطق القومي العربي هو ضرورة ظرفية تمنح الدولة الوطنية بعض المنافذ لتوسيع مصالحها وتعزيزها قبل الشروع في تحقيق المأمول القومي.

وعليه، نخلص إلى ما يلي:

- التحالف مع أعداء الأصدقاء ليس توجهًا لاقوميًا بقدر ما هو منطق سياسي يعتبر أنّ المضمار السياسي هو مضمار برغماتي يقوم على الصراع والبقاء، مما يجعل من منطق الأصدقاء أو الإخوة منطقًا يخضع لتراتبية المصالح السياسية للدولة الوطنية.

- غالبًا ما يتميّز التحالف خارج المنطق القومي بالطابع الاستعجالي والظرفي، ويتحكم فيه بالدرجة الأولى الظرفية السياسية والتراكمات الجيوسياسية للدول المتحالفة، وهو تحالفٌ إجرائيٌ توافقيٌ يخدم أهدافًا مُعيّنة ومحدّدة.

المنطق القومي يظل محدّدًا لرابطة الصداقة أو الإخوة في الوطن العربي

- الخصومة أو النعرات ما بين دول الجوار هي المحدّد الأساس لهذه التوجهات والتحالفات التي تشيد خارج المنطق القومي.

- مصالح الدولة الوطنية هي المؤشّر الأساس في تصنيف التحالفات ما بين الصديق والعدو، بناءً على هذه التوجهات التي نجمت عن ترسبات الحركات الإمبريالية والتوجهات الإيديولوجية السياسية لبعض الدول العربية.

- تتخذّ التحالفات خارج الكل القومي طابع الضغط والمعاندة التي تعمل على إحراج الإخوة الأصدقاء الذين يتجهون نحو سياسة عدوة للدولة الوطنية.

- منطق التحالفات التي يفرضها واقع الصراع السياسي، لا يخضع للتصنيف أو الرؤية الأخلاقية المعيارية المرتبطة بالهوية القومية، فالمنطق القومي يظل محدّدًا لرابطة الصداقة أو الإخوة في الوطن العربي، وهو تحديدٌ لغلاف ظاهري كلي يتفق الجميع على ضرورته وقدسيته. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن