أما هذه الدرة الثمينة فهي قانون الإجراءات الجنائية البالغ عمره حتى الآن نحو 75 عامًا، وكان رغم بعض الهنات، مفخرة للنظام القضائي المصري، إذ يقر ويضمن أغلب معايير المحاكمة العادلة، ويمنح المتهمين حقوقًا تضمن حسن سير العدالة تجاههم، لكن هذا القانون صار مهددًا هذه الأيام تهديدًا جديًا خطيرًا بالتخريب التام وإسقاط عدد لا يُحصى مما يتضمنه من ضمانات وقواعد وأصول، بعدما أعدت الحكومة مشروعًا بقانون بديل ودفعت به سرًا إلى مجلس النواب الذي قام بدوره وبالسرية الصارمة نفسها، بتشكيل لجنة خاصة لبحثه وصياغته في صورته النهائية التي أعلنت لجنة الشؤون التشريعية في البرلمان الأسبوع الماضي أنها أقرته فعلًا وبات جاهزًا للعرض على المجلس لإقراره بشكل نهائي، وهو أمر متوقع ولا شك فيه بالنظر للأغلبية الحكومية الكاسحة التي تهيمن على مقاعد البرلمان المصري.
الصبر على الطغاة أمر محفوف بمخاطر شديدة عاجلة ومنظورة
خطورة هذا التشريع الجديد تتجاوز مجرد تسهيل وشرعنة التنكيل بالنخب والجماعات المعارضة والحقوقية والإعلامية باستخدام مرفق القضاء، على نحو ما تعوّد عليه الوسط السياسي المصري في ظل حال الاستبداد السياسي القاسي الذي ترزح تحته البلاد حاليًا، وهي حال سمحت باختراع سلسلة طويلة من القوانين الشاذة والمتنوعة بما فيها إدخال تعديل جزئي على بعض بنود قانون الإجراءات الجنائية الحالي نفسه.
لكن الحكومة المصرية لم تكتفِ بهذه التعديلات التي كانت تستهدف إحكام الخناق على نخبة البلاد السياسية والحقوقية والاعلامية، إذ هي تسعى الآن بهذا التشريع الجديد، أن توسّع دائرة العسف والشذوذ القانونيين لتشمل المجتمع كله وتطال المواطن المصري العادي ومن ثم تضيفه وتحشره ضمن دائرة نخبة المجتمع المقهورة، متغوّلة على حقوقه وحرياته بعدما يفقد آخر الحصون القضائية الذي كان مفترضًا أنه يحمي أفراد المجتمع العاديين من ظلم الإدارة وتعسفها.
إنّ هذا الحدث الأخير في متوالية القمع والاستبداد، يشي بحقيقتين اثنتين، أولاهما أنّ الظاهرة الاستبدادية ظاهرة ليست ساكنة وتأبى التوقف عند مستوى معيّن، وإنما ما بقيت تظل تتحرك وتتحور وتتنقل معربدة في كل اتجاه.
فأما الحقيقة الثانية، أنّ الاستبداد وهو يندفع قافزًا من مستوى لآخر ومن دائرة أصغر إلى أخرى أوسع وأكبر، يتفاقم أذاه على الدوام ليشمل مجالات ودوائر بشرية أكبر عددًا بكثير جدًا مما يبدو عليه الحال في مبتدأ عمر النظام الاستبدادي، إذ ربما تظن أكثرية الناس أنّ هدف القمع الذي تمارسه السلطة المستبدة قاصر فقط على كل من تعتقد هذه السلطة أنه يناوئها أو يُحتمل انخراطه في نشاط من شأنه المس بسلطتها المطلقة، لكن سرعان ما يتضح لهؤلاء الناس خطأ ظنهم وأنهم، رغم عاديتهم، ليسوا بعيدين ولا بمنأى أبدًا عن خطر الانزلاق إلى قلب دائرة القمع.
مصر على أبواب مرحلة يفتقد فيها الإنسان المصري أي أمان شخصي
إذن التغاضي والصبر على الطغاة أمر محفوف بمخاطر شديدة، ليست آجلة ولا بعيدة في الزمن ولكن عاجلة ومنظورة، كما لن تكون قاصرة على الأذى الاستراتيجي المتمثل في شيوع الفساد وتحطيم وتخريب قدرات المجتمع على التقدم والنهوض في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ، وإنما هناك أذى والآم مباشرة عاجلة وقاسية يكابدها المواطن تزيد وتفاقم من سوء أحوله، إذ يفتقر ويتعرى تمامًا من أي غطاء للعدالة ولو في حدودها الدنيا، أي ليس العدل الاجتماعي فحسب بل والقضائي أيضًا.
الخلاصة باختصار، أنّ مشروع قانون الإجراءات الجنائية المصري الجديد ينبئ بأنّ البلاد على أبواب مرحلة يفتقد فيها الإنسان المصري، مهما كان موقعه، أي أمان شخصي، سواء اليوم أو في المستقبل، وهذا شعور لو تعلمون خطير جدًا على البلاد والعباد بمن فيهم الحكام كذلك.
(خاص "عروبة 22")