كان من حظي أني ناقشت ما جرى في مايو 1971 مع الأستاذ هيكل في حديث مطوّل بمكتبه على كورنيش النيل، وكنت منحازًا وقتها، إلى فكرة أنّ الانقلاب على الناصرية بدأ بالتخلص ممن كنا نسميهم "رجال عبد الناصر"، ولكني أعترف بعد مرور كل هذه السنين أنّ هذه الفكرة تحتاج إلى مزيد من التعمق والمراجعة.
أن يأتي الرئيس الجديد برجاله، لا يعني بالضرورة انقلابًا على ما سبقه، خاصة وأن السادات لم يُعرف عنه أي معارضة طوال 18 سنة، ظل خلالها يردد "صوتي في جيب عبد الناصر".
لم يكن السادات أقوى المرشحين لخلافة عبد الناصر، وقد كانت مفاتيح السلطة في أيدي مجموعة من هؤلاء الذين أطلق عليهم "رجال عبد الناصر"، والسادات يدرك أنّ قرار تنصيبه على مقعد الرئيس في أيديهم، ويعرف أنهم انحازوا إلى ترشيحه، ورفضوا أسماء أخرى كانت بحكم دورها في الثورة، وما بعدها، أكثر مصداقية أمام رجل كان فاقدًا لكل مصداقية لدى الرأي العام وقتها.
استحكم الخلاف بين السادات وهيكل بعد زيارة كيسنجر للقاهرة يوم 7 نوفمبر 1973
جاء رحيل عبد الناصر المفاجئ والفاجع نقطة تحوّل كبيرة في الأدوار عند قمّة السلطة، ومنها الدور الذي لعبه هيكل الذي وجد نفسه مؤتمنًا على مسيرة 18 سنة من عمر الثورة، وخشي أن تضيع هدرًا إن لم يُحسن الخلفاء تقدير الموقف التقدير الصحيح واللازم لاستمرار تلك المسيرة، وتصحيح كل ما علق فيها من أخطاء.
لم يكن السادات مرشح هيكل المفضل، فكر أولًا في زكريا محي الدين، كان هو مرشحه عند عبد الناصر ساعة كتابة خطاب التنحي عقب هزيمة يونيو، وفي خضم التحضير لجنازة عبد الناصر برز اسم زكريا محي الدين على الصفحات الأولى لجريدة "الأهرام" بطريقة موحية، ولكن المتنفذين عند قمّة السلطة انحازوا من اللحظة الأولى إلى أنور السادات، وحسب قوله فقد حذرهم هيكل من أنّ هذا الذي تستضعفونه اليوم سوف يتخلص منكم في الغد القريب.
عاد هيكل وانحاز إلى السادات، وأمضى معه أربع سنوات، اختلفا كثيرًا وراء الكواليس، وخالفه هيكل علانية أكثر من مرة بجرأة يُحسد عليها، وكان دائمًا يُذكره بانتمائه إلى ثورة يوليو، وانحيازه المفترض لمبادئها التي أعلنها بصوته صبيحة يوم 23 يوليو 1952.
تصاعدت وتيرة الخلاف مع بدء رحلات هنري كسينجر المكوكية في المنطقة، حتى وصلت حدة الخلافات إلى افتراق الطرق الذي أفضى إلى قرار السادات إقالته من "الأهرام".
في اللحظة التي عزم فيها السادات على تغيير دفة السياسة المصرية كان من الصعب وجود هيكل قريبًا من دائرة صناعة القرار، أراده السادات إلى جانبه، ولكن انحياز هيكل إلى أفكاره وثباته على مبادئه جعل هذا التمني غير قابل للتحقق، فأخذ يدبر لإبعاده.
نقطة البداية جاءت مع بدء الترتيبات لما بعد حرب أكتوبر حين تحقق "نوع من النصر" أريد له أن يكون فاتحة عصر جديد، استغل السادات ورعاته الدوليين هذه الشرعية الجديدة لتسهيل عملية إعادة ترتيب البيت.
استحكم الخلاف بين السادات وهيكل بعد زيارة كيسنجر للقاهرة يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1973، ومحادثاته المنفردة مع السادات، فتحوّل الخلاف إلى توتر شديد في العلاقة بينهما حتى جاءت لحظة القطيعة.
أراد السادات من هيكل أن "يلتزم"، بالخط السياسي الذي يرسم ملامحه الجديدة مع كيسنجر، وأن يكون "داعية" الخط الجديد لدولة السادات.
أبى هيكل أن يكون داعية لسياسات تناقض أفكاره ورؤاه ومبادئه فحرص على أن يكتب ويحذر ويعارض وأحيانًا يفضح بعض المستور، وبدا كأنه عقبة يجب التخلص منها قبل الشروع في خوض غمار الانقلاب الحقيقي على عصرٍ لم يعد قابلًا للاستمرار في ظل إعادة ترتيب أوضاع المنطقة التي يجري هنري كيسنجر هندستها بعد أن سكتت المدافع.
بدأت مسيرة الانقلاب الحقيقي على جمال عبد الناصر، وجاءت ساعة الصفر في هذا التحوّل الكبير مع "الانقلاب على هيكل".
الأسوأ أنّ السادات قرر أن يكون إخراج هيكل من "الأهرام"، جارحًا وموجعًا، فأجلس علي أمين فوق كرسيه، وعيَّن توأمه مصطفى أمين رئيسًا للأخبار، فصارت أهم مؤسستين صحفيتين في يد "الأخوين أمين" اللذين يكنان لهيكل ولعصر عبد الناصر كل العداء.
التخلص من "نزناز" هيكل لم يكن رغبة السادات وحده، كانت تأتيه مطالبات لإزاحته من دول عربية تعتبر هيكل معاديًا لسياساتها، إلى جانب إصرار كيسنجر على إبعاد هيكل عن عقل السادات، واستبعاد تأثيره على قراراته.
تسارعت الخطوات على طريق الانقلاب وبعد أقل من ثلاثة أشهر من إبعاد هيكل أصدر السادات ما سمي "ورقة أكتوبر" التي أعلن عنها في 17 إبريل/نيسان 1974، وفيها رؤية جديدة لأهداف العمل الوطني كانت هي حجر الأساس الذي قاد خطى التحولات من بعدها.
كان يوم الثاني من فبراير 1974 بداية تاريخ جديد في مصر
تعجل السادات في خطواته نحو التحول إلى السياسات المنقلبة، بعد أربعة أشهر من إطاحة هيكل، بالتحديد في يونيو/حزيران سنة 1974 أصدر القانون رقم 43 لسنة 1974 الذي يُعتبر البداية الحقيقية لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي مثلت الانقلاب الكبير على مضمون وجوهر وتوجهات السياسات الناصرية.
في تلك الأثناء استقبلت القاهرة أول زيارة لرئيس أمريكي إلى مصر، واكب الزيارة وتبعها ارتماء شبه كامل في الأحضان الأمريكية، ارتماءٌ تلقفه كيسنجر ورحب به وضغط باتجاهه ورعى مسيرته حتى لحظة التسليم الكامل مع زيارة السادات إلى القدس المحتلة في 1977.
كان يوم الثاني من فبراير/شباط 1974 بداية تاريخ جديد في مصر، وكانت لحظة رجوع التوأم أمين إلى الصحافة المصرية هي إشارة انطلاق أبشع حملتين، واحدة استهدفت مصداقية هيكل، والأخرى صوبت كل أسلحتها الفاسدة ضد ثورة يوليو ومشروعها الوطني، ظلت الحملة ضد هيكل تتأجج، وتخبو، بينما بقيت الحملة ضد عبد الناصر تَضْطَرِمُ نيرانها حتى اليوم.
(خاص "عروبة 22")