أشارت البعثة في تقريرها إلى ارتكاب طرفَي الحرب في السودان (الجيش وقوات الدعم السريع) انتهاكات مروّعة لحقوق الإنسان تجاه المدنيين منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، وأوصى التقرير بضرورة تكوين ونشر قوة دولية محايدة بشكل فوري لحماية المدنيين وإلزام حكومة السودان بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية بتسليم ثلاثة من المطلوبين وهم الرئيس المعزول عمر البشير ومساعده ووزير الدولة السابق بوزارة الداخلية أحمد هارون ووزير الدفاع والداخلية السابق عبدالرحيم محمد حسين، مع تمديد ولاية المحكمة الجنائية التي تشمل دارفور فقط بموجب قرار مجلس الامن (1593) لسنة 2005 لتشمل كل أنحاء السودان بما يجعل جرائم الحرب الحالية المشمولة باختصاص الجنائية الدولية، مع تمديد حظر توريد الأسلحة المقتصر حاليًا على دارفور فقط ليشمل كل أنحاء السودان.
تباينت ردود فعل الأطراف السودانية حول هذه التوصيات، فالجيش ومساندوه رفضوها واعتبروها "سياسية" وأعلنوا عدم التعاون مع البعثة وطالبوا بإنهاء تفويضها. أما الطرف الثاني في الحرب ممثلًا في "قوات الدعم السريع" فقد أبدى إعتراضًا على الاتهامات التي وردت بحقه ومقاتليه وحلفائه في التقرير وعاب على البعثة عدم التواصل معه لاستجلاء وجهة نظره "والإطلاع على جهوده المبذولة لوقف الانتهاكات"، لكن "الدعم السريع" رحب بتوصيات البعثة ودعا إلى تمديد عملها لعام معلنًا استعداده للتعاون معها.
بالنسبة للمكونات السياسية والمدنية فإنّ تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدّم" التي يترأسها رئيس الوزراء السابق دكتور عبدالله حمدوك - والتي تُعد التحالف السياسي والمدني الأكبر حاليًا في السودان - فقد رحبت بتوصيات البعثة وطالبت بتمديد تفويضها لعام آخر. اتسمت جلسة مجلس حقوق الإنسان المنعقدة يوم 10 سبتمبر بجنيف، والتي ناقشت تقرير البعثة، بعدة ملاحظات، أولها أنّ جميع المتحدثين لم يقدّموا أي حجج تنفي إرتكاب طرفَي الحرب أو أحدهما لانتهاكات مروّعة خلال الحرب، بجانب المطالبة بوقف الحرب وحماية المدنيين، ولعل هذا يظهر تجنب جميع الدول تقديم نفسها بوصفها توفر الحماية لأي من أطراف الحرب لارتكاب المزيد من الانتهاكات أو استمرار الحرب.
الملاحظة الثانية أنّ المتحدثين المساندين لموقف ممثل حكومة بورتسودان تجنبوا المساندة المباشرة لرفض التوصيات والمطالبة بإنهاء تفويض البعثة الأممية، وبجانب الإشارة للانتهاكات التي ارتُكبت ضد المدنيين والمناداة بوقف الحرب تناولت بعض الدول الأفريقية كغامبيا أهمية مراعاة مبدأ سيادة الدول دون المطالبة المباشرة بعدم التمديد للبعثة لعام آخر لكون هذا التصريح المباشر يبدو كأنه مطالبة بغض الطرف عن الانتهاكات المروعة ضد المدنيين وهو ما لا يمكن تبريره أو مساندته أو تحمّل كلفته بأي حال من الأحوال.
من المقرر أن يقوم إجتماع مجلس حقوق الإنسان في شهر أكتوبر 2024 وفق مشروع القرار المتداول، بالتصويت على الموافقة على توصيات البعثة الأممية برئاسة التنزاني محمد شاندي وعضوية كل من جوى أزيلو (نيجيريا) ومنى رشماوي (الاردن/سويسرا) والتمديد للبعثة لعام جديد، وربما تحدث تعديلات في صياغة النص دون توقعات بتعديل جوهر مضمونه. وتشير المعطيات الحالية إلى إمكانية تكرار سيناريو جلسة مجلس حقوق الإنسان في 11 أكتوبر 2023، عند اعتماد مشروع القرار المقدّم من المملكة المتحدة نيابةً عن الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والنرويج لتكوين بعثة أممية لتقصي الحقائق عن السودان، بإجازة هذا القرار (موافقة 19 دولة واعتراض 16 وامتناع 12 دولة عن التصويت). وتمت إجازة القرار لحصول المؤيدين على أكثرية في مواجهة المعترضين لاختيار ربع عضوية المجلس الامتناع عن التصويت كان نصفهم من الدول الأفريقية وهي (جنوب إفريقيا، بنين، غامبيا، جابون، كاميرون ومالاوي).
تتزامن الدورة الحالية لمجلس حقوق الإنسان مع تعقيد قد يكون ذا تأثير سلبي على الموقف العربي الموحّد جراء التطورات السلبية في العلاقات السودانية - الإماراتية على خلفية الاتهامات التي وجهتها السودان للإمارات بتقديم السند لـ"الدعم السريع" وبلغ الأمر ذروته بتقديم الأولى شكوى رسمية بمجلس الأمن ضد الثانية، وإزاء هذا التطور السلبي فلا يتوقع أن تصوّت الإمارات مع القرار العربي المساند لبورتسودان، وهو ما يبرز سيناريو امتناع أبوظبي عن التصويت في هذا الملف بحيث لا تخالف القرار العربي الموحّد بالتصويت مع القرار، ولا تصوّت في الوقت ذاته لصالح حكومة بورتسودان.
قد تجد بعض الدول العربية والأفريقية والإسلامية نفسها متنازعة ما بين التزامها السياسي الجماعي ككتلة بالتصويت ضد مشروع القرار وبالتالي تبدو وكأنها تحرص على إستمرار الحرب والانتهاكات المتصلة بها وإعطاء الضوء الأخضر للمضي قدمًا فيها، أو الموقف الأخلاقي المناقض للموقف الجماعي بما يترتب عليه الضغط لوقف الحرب والانتهاكات وضمان عدم إفلات مرتكبي الانتهاكات والجرائم من العقاب، ومن الواضح أن هذه الدول وقياداتها وشعوبها لا ترغب على الإطلاق بأن تتحمّل التبعات الأخلاقية والشعبية والتاريخية والسياسية الناتجة عن تفسير موقفها كداعم لاستمرار الحرب والانتهاكات المرتبطة بها.
جميع المعطيات السابقة قد تجعل فرضية تكرار وقائع وسيناريو إعتماد قرار تكوين بعثة تقصي الحقائق في أكتوبر 2023 وارد الحدوث والتكرار هذه المرة أيضًا في الدورة (57) بإجازة توصيات تقرير بعثة السودان والتمديد لها لعام بفضل ومساعدة من امتنعوا عن التصويت وتمكينهم للمساندين من تحقيق الأكثرية في مواجهة المعترضين على القرار.
(خاص "عروبة 22")