فوق طاولة مجلس الوزراء اللبناني، دراسة تفصيلية أُهملت حول موجات النزوح المتدفّقة نحو لبنان المهاجر والحالمة أجياله بالهجرة النهائية. ويبدو لبنان الرسمي العاجز منذ عامين للتوافق على رئيس جمهوريته لسدّ فراغات قصر بعبدا، عاجزاً أيضاً بسبب هشاشة أوضاعه الداخلية والحروب الضخمة المستجدّة عن تلمّس سياسة خلاص موحّدة تجاه تلك الظاهرة التي بدأت واستمرّت قوية جدّاً ومتقطّعة لأسباب إنسانية منذ 2011 باندلاع الحروب المتعددة الهويات وصلت إلى مليونين ونصف المليون نازح سوري حتى قبل الموجات الجديدة نحو بلدٍ ضامر ومُربك حيّر ويُحيّر دول العالم التي تتابع مشاهده الدامية اليوم، وأنا أكتب هذا المقال.
هناك قلق عسكري وسياسيّ واقتصادي واجتماعي يُقلق العالم فاللبنانيون بمعظمهم باتوا يحلمون بالنزوح والهروب من لبنانهم هذا "الجحيم السعيد الفريد في الدنيا". لنكتب ببساطة أنّ اللبنانيين والسوريين والعراقيين وبلدان شمالي إفريقيا وحتى القارة السمراء تُراها تتجمّع أعباءً هائلة في العيون الأوروبية، وصولاً إلى أقاصي الغرب، ظواهر مقلقة لا حيال كوارث الإبحار ومخاطرها بحثاً عن الاستقرار وحسب، حين تتجهّز قوافل البواخر والقوارب سرّاً لتعبر بهم من لبنان مثلاً نحو شواطئ أوروبا أو لترميهم للأسف أمواج البحر المتوسط هائجاً نحو القعر.
أيمكننا التفكير بعقل بارد حيال ظواهر إنسانية كارثية جاءت نتيجة، وليست سبباً لموجات زرع تلك «الثورات» الملوّنة بالدماء والخرائب عُرفت بـ"ثورات الربيع العربي" وأقلقتنا جميعاً من تونس إلى سوريا مروراً بمصر واليمن وليبيا والجزائر وجيبوتي والعراق والأردن والمغرب وعمان ولبنان وموريتانيا والسودان..إلخ. خلّفت تلك الثورات لمهندسيها وصانعيها الأثقال الاقتصادية ومشقات الإيواء، ناهيك عن التطرّف الذي تلبّسهم حيال امتصاص جاذبياتهم الدينية التي كان يراهن عليها الغرب، بهدف التغيير السياسي الداخلي وإمكانات التحوّلات في العقول والجذور التي راحت ترتدّ أصنافاً من الاستحالات في التغيير والتبديل.
درسنا في الغرب حيث الاستشراق هو الهمّ التاريخي البارز حيال الشرق، وكان الفكر المتداول لكبار الأساتذة الجامعيين وفي أعظم الجامعات منصبّاً عبر قرون على اختراق الغرب للشرق والجنوب العربي وتطويعه بالأفكار النهضوية الغربية، لكنها استراتيجية انقلبت إلى هموم يقظة الشرق العربي والإسلامي في الغرب الذي راح يقوى ويشتدّ مُقلقاً عواصم أوروبا وخصوصاً إيطاليا وفرنسا عبر تدفّق النازحين والمسافرين والمهاجرين.
لو ذهبنا إلى أقصى الغرب وتابعنا الخطب "المشتعلة" بين المتسابقين إلى البيت الأبيض دونالد ترامب وكامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرّرة في 5 نوفمبر/تشرين الثاتي القادم لوجدنا لوائح لا تنتهي من المرشحين الديمقراطيين والجمهوريين المنسحبين وأحزاب المستقلين والخضر والتحرريين، تجمعهم لغة الدفاع عن إسرائيل من ناحية والتناكف والوعود الممكنة بل المستحيلة من ناحية أحرى، بحلّ أزمات المهاجرين العاطلين. قالت لي صديقة لبنانية أمريكية وُلدت هناك أنّها خائفة أن تتحوّل أمريكا إلى الماركسية.
لنتذكّر أنّ مصطلح "النهايات" راج مع الألفيّة الثالثة، ليتّخذ القرن الـ21 تسمية ألهبت الجميع هي قرن الدين. ما زالت المؤلفات والنظريات الواسعة الانتشار المبشّرة بانهيار الأيديولوجيات والأفكار الثورية مقابل يقظة الأديان والمذاهب، وخصوصاً تلك التي استلهمت الفكر القومي، إن لم نقل استوردته من عبّ الغرب واعتنقته بفجاجته وهي لم تكن انخرطت بعد في مقدّمات لا الثورات الصناعية ولا التقنية أو الإلكترونية ومفاهيمها ومفاعيلها الحضارية، بل جعلت الشعوب المختلفة تتواصل في الحياة والجامعات والمقاهي والمنتديات والمساحات الخضراء، إلى سنّ القوانين العادلة في الحقوق والمساواة والواجبات.
هكذا حلّ عصر العولمة، ليأخذ الشعوب الطريّة لا نحو الذكاء الاصطناعي، بل إلى ما أسميه مقلوباً ب "صناعة الذكاء" دفناً لمعظم المعتقدات والأفكار والتقاليد والنظريات التراثية وسيادة الدول التقليدية، تبشيراً بالسقوط النهائي للحدود والأنظمة المتخلّفة، وحتّى للبشر بألوانهم وهوياتهم المتعددة عبر انتماءاتهم الضيّقة.
يُورث هذا المناخ الجديد من الفكر والنقاش تأثيراته الضخمة على صناعة الأفراد والأوطان، بشعوبها الموسومة بالتخلّف. وهنا فكرتان داعمتان: التبشير أوّلاً بملامح عصر جديد، لكنه منهك يأخذ وقائعه الاجتماعية البطيئة والمكلفة وتسميته من استراتيجيات "الفوضى الخلاّقة"، وتخليص الفكر والتفكير ثانياً المسكون بالتكفير عبر استراتيجيات قديمة قائمة، محورها تلك العلاقات المزمنة المعقّدة بين الغرب والشرق في قضايا العدالة والمساواة والاعتراف التي تمطّت عبر التاريخ نحو مستقبل فلسطين والقدس المقيم أبداً مع أنّه بلغ ذروته مثلاً قبل اليوم مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان عندما قال: "حين أتطلّع إلى نبوءاتكم في العهد القديم أتساءل إن كنّا نحن مَن سيرى نهاية العالم في حرب عالمية جديدة أو أنّ الاختلاط الدولي والقاري سيصبح واقعاً فعلاً".
إنها مظاهر تتردّد مخيفة حول عقل العالم، وفهمه المسكون منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، بمعضلات الهجرة وتهجير الفكر من الأديان نحو الإنسان. تقوى تلك الظاهرتان وتتراجع المسافات بين الشعوب الرافضة للتغيير المسكونة بالنكوص نحو مجتمعات أحادية وهويات وقناعات خاصة، بحثاً عن استراتيجيات التغيير في الشرق والغرب. هكذا تعيش وستبقى التشظيات والحروب والثورات المستوردة كأدوات أبدية موكولة بالرفض والتمرد والخرائب والهجرة والنزوح، وليبقى البحر الأبيض المتوسط مشرّعاً للثروات و"الثورات" المستوردة.
(الخليج الإماراتية)